بتاريخ : 09 / 04 / 2010 الساعة : 18 : 06 PM
:
كم هي جميلة تلك اللحظات التي نتوقف أمامها بذهول ونحن
مشدوهين يشدنا النظر نحو شريط سينمائي يتحرك ببطء شديد، يعيد فيها
" المُبرمج " تكرار الصوّر مرات ومرات لنفس المشهد حيث
تأخذنا أعين الكاميرات إلى زوايا مختلفة من الصورة
التي ترينا بناءاً ضخما يُهدم بثواني معدودات ، ويتحول فجأة
إلى ركام ..!
ننظر بذهول عجيب ونتساءل :
كيف تمتّ عملية الهدم بهذه السرعة ، وهذه الدقة ،
بالرغم مما يحيط بالبناء المهدم من دور وعمارات
لا تبعد عنه إلا امتار قليلة ودون أن تتأثر بأي أذى ؟!
قيل لي : إن البناء يقوم على أساس العلوم الهندسية
ولكن لكل مدرسة علومها المستوحاة من ثقافتها المنتجة لهذا العلم
ووفق معايير ثقافة أي مجتمع ؛ ولكن " ثقافة الهدم " تتبناها جميع
المدارس الهندسية وهيهات من يبرع فيها لأنها لا تقتصر إلا على الخاصة
من المهندسين الموهوبين بحيث لا يستطيع الولوج إلى هذا العلم
إلا أولئك الذين برعوا " وآمنوا " بأن الهدم ليس من أجل العبث
والخراب إنما هو هدم من أجل البناء أو إعادة البناء .
والهدم – كضرورة - شرطه الصارم ، المحافظة على البيئة المتداخلة
والمحيطة بالهدف المقصود هدمه . وبالاستدراك نلاحظ ،
ان عملية البناء لتُنجز ، تحتاج إلى زمن محدد نسبيا ،
يطول أو يقصر بحسب ضخامة المشروع الذي يحتاج أحياناً
إلى أشهر أو سنوات .
الملاحظ أن عملية البناء لا تلفتنا كثيرا ولا نتابعها على الرغم من
مرورنا أو سكننا بالقرب من المشروع إلا إذا كان صرحاً عظيماً
أو تحفة فنية معمارية ستدخل التاريخ " كبرج خليفة " مثلا
وقيل لي أيضا : إن الهدم السريع مكّلف جداً وربما يتساوى
بنفس تكلفة البناء والقيام به مجازفة كبرى تحتاج أولا نشر الوعي
في نطاق منطقة الهدم بين الناس حتى يطمئنوا أن خرابا سوف
لا يلحق بمبانيهم وأن حياتهم سوف لن تتعرض للخطر
ليتقبلوها بل ويجب أن يكون قرار الهدم قد اتخذ لضرورات
الأمن أو الاستثمار .
كبناء آيل للسقوط أو آخر بُنيّ في لحظة " جهل " صادف بناءه أمام
معلم تاريخي قديم ، ارتبط وجوده بجزء من ذاكرتنا ؛ كحصن
أو قلعة أو قصر أو مكان عبادة ، حجبته عن أعين الناس
واختفت معالمه .
فبناء الحجر يتماثل - بإعتقادي - مع بناء البشر الذي
لا يعيش هو الآخر خارج نطاق القوانين الطبيعية
فهو مركب من الناحية البيولوجية بطريقة هندسية ابتداءا
من تركيبه " الجيني والخلوي " حتى أعقد جهاز ؛ دماغه العجيب.
فهذا الدماغ يُبنى هو الآخر ، ويمكنه حمل الكثير من الأخطاء والتشوهات
بفعل بعض " البنائيين " في لحظات جهل ، أو قصر نظر ،أو بفعل " بنائيين "
عبثوا بالدماغ في غفلة عن صاحبه ولمائة سبب وسبب .. !
:
فالبناء المادي للحجر لا يتكوّن خارج نطاق الثقافة البشرية
المنتجة للفن والحضارة .. وإذن ، البناء المادي هو منتج ثقافي .
هو حاجة لتلبي تلك الثقافة : فالقلاع والحصون نتاج فكر ،
كسور الصين العظيم .صاحب الفكرة هنا ارتأى ، أن استقراره
الأمني والسياسي والاجتماعي يكون قويا بالقدر الذي يكون فيه السور قوي
وهو – برأيي المتواضع - لو كان أكثر عقلانية ، لأعد جيشا قوياً ،
لو حارب مئة عام ، سوف لن تكون خسائره بالأرواح إلا أقل بأضعاف
مضاعفة مقارنة بعدد الذين ماتوا من البشر وهم يبنون ذلك السور . ..!
هنا ، صاحب الفكرة قد هدم الإنسان ليبني الحجر ؛
مع أن جل ما كان يحتاج ، هو ان يهدم ثقافة ، لتحل بدلا عنها
ثقافة جديدة خلاقة ، كانت وبالتأكيد ستصنع للصين حضارة خارج
أسوارها ؛ وهي التي من اجل ذلك لم تدخل التاريخ الحضاري
كأمة فاتحة ، في حين أن مجموعات بدوية استطاعت أن تحكم العالم
وتخترق السور العظيم لتجلس حتى على عرش تلك السلالة
التي بنته بدماء البشر وبزمن قياسي ...!
فـ كما للبناء ثقافة ، للهدم أيضا ثقافة ، وتحتمل أن تكون سيفا ذو حدين ..!
فهل باستطاعتنا إجراء عملية هدم داخل إحدى مربعات منطقة
العقل البشري لإزالة المكونات الطبقية " الخطرة " أو المشوهة
التي رُكبت خطأ أو تلك التي اعتراها تشوهات بفعل الزمن .. لإشادة
مكونات طبقية جديدة دون أن نلحق الأذى بذلك المربع أو العقل
الذي يحتوى أيضا على أبنية تراثية جميلة ..؟؟