تركت اللعب فجأة و توجهت نحو غرفة الإدارة مباشرة وطرقت الباب !
لم أكن أعلم أن بعض كلمات عابرة قالها " المدير " وهو يجول بنا في ما يشبه "الغرفة " ممتلئة جدرانها برفوف خشبية عتيقة متهالكة ،عليها كتب كثيرة بشكل عشوائي القديم مع الجديد والصغير مع الكبير.. ولم نكن نعرف لماذا أتى بنا إلى حيث كنا نقف .. ولكن المدير كان يضع يده على كتفي بالصدفة وكلماته التي ستبقى ترن في أذني وتجول في عقلي حينما خاطب تلامذة الصف وهو يربت على كتفي قائلا : " العِزي سوف يقرأ غدا جميع هذه الكتب " .
( رحمك الله يا ابو ماهر أحمد اليماني)
: ماذا تريد يا ولد ...؟
- أريد الاشتراك بالمكتبة أستاذ .
- هل قرأت الشروط ؟
- نعم ولكني لم افهمها !
- باختصار ، إن قرأت هنا ف بالمجان ، وإن استعرت،
ستدفع عشرة قروش " تأمين " عن كل كتاب تأخذه معك .
- عشرة قروش .. ؟!
- - نعم .. وفرها من مصروفك !
خرجت وأنا محبط ، فمن أين لي أن آتي بالعشرة قروش دفعة واحدة . ولكن رغبتي في القراءة كانت كبيرة .. فوافقت على القراءة دون استعارة .. وقلت في صيغة رجاء :
- إنني الآن لا املك سوى خمسة قروش ، فهل يمكنني المطالعة هنا مجانا عمي أبو سليم ؟
أدار لي ظهره ودخل غرفة المدير ، فطأطأت عندها رأسي وشعرت بحزن شديد ثم بدأت بالمغادرة .. وقبل خروجي من الباب صرخ وقال :
- وين رحت .. يخرب بيتكم ،
جيل فاقد الصبر .. ألا تريد أن تقرأ ..؟
قلت بلى .. فقال : - هل اخترت كتابا ؟
- لا ، لا أعرف !
- اذهب إذن واختار الكتاب الذي يعجبك .
الكتاب الذي يعجبني ، هكذا ! تساءلت ! ولكنني توجهت بسرعة لناحية رفوف الكتب وبدأت عيناي
استطلاعاتها وفجأة، لا أدري كيف ، تسمّرتُ أمام كتاب صغير الحجم قليل الصفحات .. رُسم على غلافه حصان عملاق ، عند نهاية صدره فتحة كبيرة يتدلى منها حبل يتسلقه أو ينزل منه بعض الرجال ، يلبسون البسة غريبة وعلى رؤوسهم خوذات غريبة وسيوف قصيرة تتدلى من وسطهم ؛ فتناولته بسرعة ، قلّبته وانبهرت بالصور المرسومة على صفحاته، وتحت كل صورة ، بعض الجُمل تحكي أجزاء من الحكاية !
شعرت وكأني في حلم جميل ؛ فهذه هي المرة الأولى التي أقف فيها محاورا ، فالعم أبو سليم ( ناظر المدرسة ) كان يقف الى جانبي ، يحاورني ، يسألني ، بل ويحثني على اختيار كتاب دونما تدخل منه ولا إملاء .. فكيف أنسى هذا المشهد ؟ كانت تلك، هي المرة الأولى التي
قمت فيها بالاختيار ! كانت المرة الأولى التي ، لم تُلقى عليّ الأوامر من أحد ؛ رحمك الله يا معلمي ، لم يسألني لماذا اخترت هذا ولم تختار ذاك ، لكنه نبّهني ، الى أن هذه القصة هي جزء من قصص كثيرة " لملحمة " شعرية لقاصّ يوناني " ، ولم أكن
اعلم حينها عما كان يحدث ، ولكني كنت أُومئ له برأسي لأختصر الوقت ولأمضي ... و ها أنا أجلس على مقعد
خشبي صغير في إحدى الزوايا أتصفح الكتاب وحيدا والسعادة تغمرني فقرع الجرس .
جريت بسرعة والكتاب بيدي لأسلمه " للناظر " فلم أجده هناك ، ارتبكت قليلا ..ثم خرجت مسرعا وأنا أصارع نفسي ، هل أرد الكتاب أم استسلم لرغبتي في مواصلة القراءة؟
فأبقيته سرا معي !
في اليوم التالي أقنعت شقيقتي بالاستدانة منها فوافقت بشروط أهمها : أن أتركها تلعب مع زميلاتها في المدرسة وأن ترافقهن في طريق العودة إلى البيت بعيدا عن مراقبتي ومرافقتي فلوت ذراعي ووافقت على شرط بألآ أخبر أبي بذلك !!
دفعت العشرة قروش حيث
كانت تلك أيضا أول مرة،
ادفع فيها من أجل كتاب .
وأول مرة اختار بحرية.