الأثير- atheer
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
الأثير- atheer

ثقافي، تاريخي، سياسي، أدبي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  
بوابة العقل القلب مفتاحه الكلمة الطيبة
بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
سحابة الكلمات الدلالية
المواضيع الأخيرة
» القلعة البرية البحرية
واقع يلفه الحلم  Emptyالسبت يوليو 15, 2023 1:44 am من طرف رأفت العزي

» واقع يلفه الحلم
واقع يلفه الحلم  Emptyالسبت مارس 11, 2023 1:00 am من طرف رأفت العزي

» (( لا تحيا إلا بالعناق))
واقع يلفه الحلم  Emptyالثلاثاء أغسطس 16, 2022 10:02 pm من طرف رأفت العزي

» لا أعرف ماذا يكون !
واقع يلفه الحلم  Emptyالخميس مايو 05, 2022 5:29 am من طرف رأفت العزي

» (( أنا والليل ))
واقع يلفه الحلم  Emptyالإثنين نوفمبر 29, 2021 1:33 am من طرف رأفت العزي

» غواية فلسفية...!
واقع يلفه الحلم  Emptyالأربعاء يونيو 10, 2020 1:16 am من طرف رأفت العزي

» شكر لديوان الأدب
واقع يلفه الحلم  Emptyالأربعاء يونيو 10, 2020 12:57 am من طرف رأفت العزي

» الكتاب والحرية
واقع يلفه الحلم  Emptyالثلاثاء يونيو 02, 2020 10:04 pm من طرف رأفت العزي

»  فلسطين من البحر إلى النهر
واقع يلفه الحلم  Emptyالسبت يناير 05, 2019 3:22 pm من طرف رأفت العزي


 

 واقع يلفه الحلم

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
رأفت العزي
Admin
رأفت العزي


عدد المساهمات : 75
تاريخ التسجيل : 31/10/2013

واقع يلفه الحلم  Empty
مُساهمةموضوع: واقع يلفه الحلم    واقع يلفه الحلم  Emptyالخميس أكتوبر 31, 2013 7:38 am

الفصل الأول
*** المُتسلّل ***
* انتظر حتى حل الظلام، وتأكد من أن كل البيوت قد أطفأت أنوارها، اقترب من المكان بهدوء المتربص تُثقل خطواته حملاً كبيراً على ظهره ، بطانية عقدها على مختلف الأشياء التي استوعبتها، أغراضه الخاصة، ثيابه الداخلية ، بعض القمصان والسراويل وأهم ما كان عنده من كتب، وجاء بها بعد منتصف الليل إلى ذلك المكان.
كان يشعر بالغموض والتوتر وتتساقط زخات خفيفة من المطر فيشدّ الحمل بيد والأخرى تمسح عن عينيه البلل؛ يحاول ألا يصدر أي صوت،خشية استيقاظ أحد من السكان ويراه كما بدأ في تلك اللحظة بحمله وانحناءة ظهره، تلفته يمنة ويسرى إذ كان يبدو في كل تصرفاته كساطٍ على بيت أو متجر ويريد الفرار بحمله. الأرض طرية لكنها ليست زلقة، السكان كانوا قد احتاطوا لذلك وأغرقوا مدخل البناء بطبقة من نجارة الخشب، توقف أمام سلم طويل يمتد على نحو واحد للأعلى لمسافة طبقتين. صعد درجات هذا السلم الإسمنتي بخطوات واسعة وهو يلهث كحصان رهان،وعندما استوى على أول رواق من المبنى المربع الضخم، عبره واتجه نحو الرواق الثالث متجاوزا العديد من الأبواب المغلقة ثم توقف أمام الباب الثامن .
حط حمله على الأرض. وفكر للحظة ليتأكد من أنه أمام الباب الصحيح؟ في الأثناء، سمع سعال رجل هرم فتوقف عن القيام بأي حركة وخُيل إليه انه كان قريبا من مكانه لدرجة قد جعلته يعتقد أنه داخل تلك الغرفة التي سيفتح بابها. كاد يختنق وهو يكتم أنفاسه من شدة اضطرابه؛ ولكنه شعر أن التوقيت كان لصالحه في تلك اللحظة حيث مواء القطط كان يعلو عند اشتباك الذكور وعنين الإناث وغنجهن ؛ وبسرعة، أخرج من جيبه مفتاحا كبيرا، ثم تحسس بإصبعه خرم الباب، وبحذر شديد أدخل المفتاح وكان من حسن حظه أن فتحه بلا تعقيد. أدخل حِمله بهدوء وانزلق داخل داخل غرفة يسكنها ظلام دامس لم يعمل حسابه... تحسس مكانه وضغط على الزر الذي يضيء فلم ينجح ، بحث عن عود ثقاب في جيبه، وعبثا...!
تحسس أرض الغرفة بقدميه مما تسبب في إطلاق أصوات ارتطام وتحريك للأشياء الموجودة، ولكنه سرعان ما تأقلم مع الوضع. دون أي كلمة ولا صوت، متنقلا بحذر، كما لو كان يترقب حدوث ضوضاء قد تؤدي إلى اكتشاف أمر هذا الزائر المجهول الذي اتى بمثل هذا الوقت من الليل محاولاً إحداث أقل ضجيج ممكن. وبينما كان يتحرك ليقفل الباب ، تسابق قلبه فجأة حين سمع ضجة وراءه. أدرك أنه ليس وحده فيها، استدار ببطء ، وعيناه تتسعان في خوف عندما رأى شبحا قصير القامة يقف في بالقرب منه تماما . كان الرجل الهرم الذي كان يسعل وقد تسلل خلفة كثعلب ماكر ، كان يحدق ب"عصمت" بمزيج من الصدمة والغضب بدون أية كلمة ، التفت نحو الخارج وصرخ : يا ابو ابراهيم! لكن صوت القطط كان أقوى. أمسك عصمت يده بإحكام، وقلبه يدق في صدره محاولا الحديث مع هذا الذي لم يتوقف عن السعال ثم صرخ به وقال اسمع يا عم : أنا ابن أخت خديجة، ام حسني، دعني الآن ارتب نفسي وعند الصباح نتعرف !
مدّ العجوز يده المرتجفة إلى جيبه بعد تحررها من قبضة حسني وأخرج علبة سجائر وقال : شو اسمك؟ تدخن؟ وشو اللي جابك بهالوقت؟
قال عصمت، في الصباح في الصباح ولم يترد أمام يده الممدودة فأخذ السيجارة مع الشكر مع انه غير مدخن مسايرة للرجل ، وحينما أشعل العجوز عود الثقاب، توقفت يده في مكانها ولم يقترب عصمت لاشعالها، بل تفرّس كل منهما بوجه الآخر حتى انطفئ العود بين أصابعه دون أي ردة فعل على لسعة النار، بل قام بإشعال عود آخر ماداً يده فاقترب عصمت برأسٍ منحنية وعيناه مشدودتان الى وجه العجوز الذي بدا مخيفا لعمق الخطوط وكثرتها في وجهه خافية عينين غائرتين لكن نظرتهما كانت حادّة.
وبالرغم من الرائحة والرطوبة العالقة في الهواء.أقفل عليه بابها، مد فرشته على الأرض، ووضع حذاءه تحت أحد أطرافها كوسادة، واستلقى في ثيابه المبللة… ولشدة ما كان حزينا ومرهقا، نام قليلا والدموع تبلل جفنيه.
كانت تلك ليلته الأولى خارج منزل العائلة، البرد في أواسط كانون الثاني كان شديدا، وأرض الغرفة بدت وكأنها مبلطة بألواح من الثلج ؛
"ما هذه الورطة؟ " قال لنفسه.. " هل كان علي البحث عن حلول أخرى ممكنة؟" أخذ يفكر ويتذكر أماكن قريبة كان يمكنه الذهاب إليها، مثل منزل أحد الأصدقاء أو أحد أقاربه ولكن الذي حدث قد حدث . بينما كان يشعر بالإحباط واليأس، تذكر أنه ليس وحده. هي ليلة وتمضي، وقد يناقش المشكلة في الصباح مع شخص آخر.. ربما قد اتخذ قرارا خاطئاً يمكن إصلاحه.. لقد رمى نفسه في المجهول ولا يعرف ما سوف تكون نتيجة ما أقدم عليه، عجز عن التفكير وهو يرتجف من ئالبرد، وأخذ يتبرّم بين أربعة جدران، ينفخ في قبضتي يديه، ثم صار يناشد الله المساعدة والإرشاد في هذا الوقت الصعب. حاول فتح الشباك الوحيد المحاذي للباب ليتنفس قليلا ، لكن درفتيه كانتا مثبتين بإحكام . وقف حائرا لا يعرف ماذا يفعل في أكثر الأوقات ظلمة من الليل المثقل بالهدوء والبرودة والرطوبة التي تكاد تخنقه في صمت ذلك الليل.
تكور على نصف مساحة فرشته وردّ نصفها الثاني عليه فبدأ كسلحفاة تخبئ رأسها عند احساسها بالقلق والخوف.
لو يستطيع الخروج ولكن لا يعرف ما الذي منعه في تلك الساعة ومما كان متوجس؛ فجميع سكان البناء سيعرفون عاجلا أن رجلا غريبا قد حلّ بينهم.
.
لم يدر كمْ كانت الساعة، عند سماعه صوت المؤذن الذي أنذره بقدوم الصبح . أخذ نفسًا عميقًا،ثم عاد وجلس على فرشته بعدما شعر لأول مرة أن صوت الآذان قد ملأ قلبه بالسكينة والتأمل.. وشعر أن السماء تواصلت مع روحه فكانت تلك لحظة محيرة حيث يلتقي الإنسان مع نفسه كما تلتقي السماء بالأرض.. شعر بتناغم روحي لم يشعر به من قبل ، كأن تلك اللحظات من السكينة والهدوء تنذره بأنه على مفترق طرق عليه أن يختار أحدهما. وأن الفجر الجديد هو نفسه رمزًا للبداية والتجديد، وإن التغيير الإيجابي ينبعث حتى في أصعب الظروف وأميرها لكنه يشعر بإحساس لم يختبره من قبل، إحساس بالحرية رغم أن عقله كان مليئا بمشاعر متضاربة. كان يشعر بالغضب تجاه والده لأنه حطم أحلامه، والحزن على الحب الذي فقده، وإحساس عميق بالخيانة لانصياع الشخص الذي كان يأمل أن يقضي حياته معه. ولكن وسط كل هذه المشاعر شعر بحرية اختاره التحرر من قيود التقاليد، وشق طريقه الخاص، حتى لو كان ذلك يعني ترك كل شيء وراءه.

بعد برهة، ومع بزوغ ضوء الفجر الأول في الأفق، وجد عصمت نفسه كأنه يقف على حافة منحدر صخري، يطل على المساحة الشاسعة من حياته القادمة . في تلك اللحظة، شعر بشعور من الوضوح يغمره. لقد اتخذ قراره، وكان على استعداد لمواجهة أي تحديات تنتظره
وبنفس عميق، أغمض عينيه وقفز نحو المجهول .
صار ضوء الفجر يتسلل ببطء في أرجاء الفضاء فقام نحو الباب.. شقه قليلا ، وبدأ يشاهد البيوت تستيقظ، وأنوارها بدت قريبة منه ويشعر بدفئها . بدأ الصبح يتسلل عبر خيوط الشمس العابرة شقوق الشباك الخشبي فقام بتوسيع شق الباب قليلا ليدخل منه الضوء الذي أول ما كشف، كشف عن جدران غرفة عفنة، تنتشر فيها كمائن العناكب، أرضها يغطيها التراب، والكثير من الحشرات المقلوبة على ظهرها، مستسلمة لموتها؛ وفي إحدى الزوايا بعض مجلات قديمة متناثرة أوراقها. وهنا، في منتصف الغرفة، نصف إبريق من الفخار، وفي زاوية أخرى، بدا نصفه الآخر قطعا مبعثرة، يحاذي أحد الجدران ست حزم كبيرة غلافها من الخيش ملقاة بغير ترتيب، صندوق صغير يحوي أنابيب زجاجية تحمل سوائل غامضة، وأدوات حادة وصغيرة ومفاتيح مختلفة، ورق ملتوي به تعليمات بالرموز الغامضة .. هكذا تخيل !
فتساءل بذهول:" ما هذه الأشياء وكيف سأقيم في هذه الغرفة؟!
لا منافع فيها، لا مياه، لا كهرباء، وحتى لا يعرف أين سيقضي حاجته!"
كان واقفًا يراقب المشهد المثير للدهشة والاشمئزاز . ويتساءل مرة بعد مرة : " كيف يمكن أن يكونوا قد تركوا هذه الغرفة مهجورة وفي مثل هذه القذارة؟!
لقد كانت مأهولة في وقت ما؟ هل جعلوها مخزنا لتلك الأشياء المحزومة وتلك الأشياء المهملة وما هي ؟
كان مستغربا، لأنها كانت جميلة جدًا قبل ظهور تلك الفوضى. كان هناك بعض الصور واللوحات على الجدران وبعض قطع فنية معلقة في الزوايا. كما كان هناك رف مزدوج بأناقة، ورائحة الورود الطازجة تفوح في الهواء فهو لم ينسى ذلك أبدا . كان قد دخل هذه الغرفة مئات المرات ،وكان هناك ستائر ملونة تضفي جوًا دافئًا ومريحًا عليها. لكن الآن، كل هذه الجمال قد اختفت. فقرر أن يفعل ما بوسعه لإعادة الحياة إلى هذه الغرفة المهملة.كانت هذه المهمة تحتاج إلى الكثير من الوقت والجهد، ولكن لن يفقد الأمل : " على أي حال سيكون وضعي هنا أفضل فيما لو لم آت وبقيت هناك! "
قال يواسي نفسه، ثم توقف، لا يعرف ماذا يفعل في ذلك الصباح الضاغط ؛ ثم عاد يشعر بالحزن والكآبة، والغضب؛ وتهيأ له، أن أثقال الدنيا كلها ومها، قد جثمت على صدره... ف بالأمس كان معززا في بيت أبيه، وكان كل شيء على ما يرام، يحظى بحب والدته واحترام إخوته وأخواته، فلماذا جرى الذي جرى؟!
تساءل بمرارة عاشق خائب:
" هل يفعل الحب خرابا ويحيد بالإنسان عن استقامته؟! "
ولكن... لماذا كان والده عنيدا وقاسيا ولم يوافق على ما أراد...؟
وهل ما كان يريد خارج عن العرف والمألوف؟!:
لقد أحب فتاة وأراد خطبتها!
كان يحب تلك الفتاة ويريد الزواج منها، وكان يشعر أنه متيم بها. ف عندما طرح" عصمت "الفكرة على والده اعترض بشدة، متذرعا مرة، ومماطلا مرات . حتى كان ذلك اليوم الذي أدى إلى الاصطدام معه .. حيث قام الأب بلطم ولده الذي قارب العشرين.. و لم يكتف بذلك، بل قذفه بكوب زجاج أدماه ... وهذا لم يكن ليحصل ، او يصل الى هذا الحد، لولا أن عصمت قد قام قبل أيام بإبلاغ عائلة من كان يحب ، أن والده سوف يأتي مع جمعٍ من الرجال " لطلب يد ابنتكم" بل انه وقع في خطأ التقدير وأبلغهم ، أن ذلك سيحدث " خلال أيام قليلة " .
كان يمكن للحادث أن يتوقف هنا، لكن والده القاسي قام بالذهاب إلى والد الفتاة وتحدث إليه معتذرا، على أساس أنه لا يرفض أو يتأخر في السعي إلى نسب " عائلتكم الكريمة، بل إن ذلك يشرفنا نحن أبناء نفس المدينة ولكن… ولدي غير قادر على تحمل المسؤولية وابنتك بمثابة ابنتي لا أتمنى لها إلا كل خير !"
بعدها انصاعت الفتاة لنصح والدها الطيب ، ورغبة والدتها الشديدة في تزويجها:
"هل تريدين ان تصبحي عانسا وقد قاربت العشرين؟ "
شعر عصمت بعدها بالخيبة، وعانى العشق بكل مرارة ، لم يعد يفكر إلا بكيف حدث ذلك ؟
وبعد أن وصل إلى حائط مسدود وفشل في الوفاء بوعده؛ أخيرا ، لملم نفسه ، وأقسم بألاَ يعود إلى منزل أبيه ابدا .
جمع حوائجه القليلة ، فرشته ،كتبه ،وبعض ثيابه القليلة وأتى إلى هذا المكان في ليل مدلهم بالسواد، ومتسلل كما يفعل اللصوص.

" المتشرد "
آخذه التفكير لأبعد من ذلك الحدث، وصار يفكر بالزمن الذي سيبقى فيه شريدا هنا ؛
هل سيعود إلى بيته وعائلته بعد أسبوع، شهر، أو حتى سنة؟ من يدري..؟
فهو ومنذ صغره ،يعيش عقدة الانتظار والتشرد. منذ طفولته، كان يسمعهم يقولون :
" خمسة عشر يوما ثم نعود !"
ولكن الأيام كانت تمر وحينما تسألهم يقولون لك بثقة: "اقترب الموعد"
فمضت شهور، ثم سنوات، الى أن توقف العدّ. ولكنهم لم ييأسوا، وما زالوا ينتظرون، رغم الإحباط الذي صبغ حياتهم، وحياة الذلّ التي يعيشونها في مخيمات اللجوء، لم ييأسوا. وما زالوا ينتظرون ،و سؤالهم الدائم،
كان ينتقل من جيل إلى آخر : متى تحين ساعة العودة؟
لكن، في صغره، كان مطرودا بقوة محتل غاصب، سرق بيته، وأرضه، وتاريخه كان يتعرض للتزوير ، مع ذلك ، فإنه شبَّ واحتفظ بحلمه ، حلم عودته للديار، للوطن. ولم يستطع المحتل سرقة حلمه !
أما وضعه في ذلك اليوم كان مختلفا : لم يكن مطرودا من بيته، بل كان متمردا عليه ، وخرج على من اعتقد أنهم قد سرقوا: حلمه.
فلماذا قارب في تلك اللحظة ، بين ما فُرض بالقوة : التشرد / مطرودا من الوطن / وبين من يملك إرادته وحرية في الاختيار في أن يكون شريدا أو لا.؟
هل يستحق الحب كل هذا العناء..؟
لقد وجد الإجابة عن سؤاله في تلك المقاربة.
لقد كان شعبه يعيش في ظل طغيان المحتل البريطاني والصراع مع عدو صهيوني بدأ يستوطن ، ولكنه رغم ذلك، لم يفقد الأمل في الاحتفاظ بوطنه وظل يضحي .
وكان يعلم أن الحرية هي الحب وأن التضحية مقرونة بالحب ؛
بدون تضحية يعني، أنك لن تحصل على الحرية.

كان عصمت في ذلك الوقت عاشقا محبا.
فتعلم من صمود شعبة وصبره دروسا تناقلتها الأجيال،
ومثلما كان الحب يحفزهم على الاستمرار في النضال من أجل الحرية.
سيكون الحب في حياته القوة التي سوف تدفعه للمضي قدمًا،
حتى وإن امتد به المعاناة .

في ذلك الصباح الباكر كان مهموما ويفكر، ثم كرر السؤال على نفسه مرتين ثلاثة :
هل يستحق الحب كل هذا العناء..؟
هل يستحق أن نضحي من أجله؟
هزّ برأسه وتمتم، نعم يستحق .الحب قد جعله قويا وقام بالتحدي.
اكتشف للتو أن العشر سنوات الأخيرة التي مرت في حياته وابقته حياً قوياً، هو الحب . واكتشف للتو أيضا ان الحب من جعله رياضيا متقدماً ، وأن الحب قد جعله يعشق الكتاب، يحب الطبيعة الموسيقى.. فهو لم يكن ولداً عاقاً ليعصَى والده، بل كان محبا لو علم والده بأن الحب وحده من ابقاه سوياً ، قوي الإرادة ، وجعله محارب من أجل حريته كإنسان ،وهو ما قد جعله يكسر قيد الارتهان حتى لأبيه.

كان عقل عصمت لا يتوقف عن التفكير واكتشف أن لديه القدرة على تحمل المعاناة.. فالانتظار هو جزء من رحلة الحب والوفاء .. ربما صمود شعبه كجزء من تلك الرحلة، كان حبهم للأرض التي نشأوا عليها، وللذكريات التي صنعوا .قد تكون العودة إلى الوطن ليست مجرد عودة جغرافية، بل هي عودة إلى الذاكرة والهوية والروح التي تجعلنا نشعر بالانتماء. التشرد قد يكون الدافع لانتظار اللحظة الحاسمة للعودة الكبرى التي ستعيدنا إلى أصولنا وتجمعنا مرة أخرى مع من نحب ومع ما نحب. لقد خلص في تلك اللحظة إلى أن العذاب حتى لو طال في غربة المكان هو الوقود الذي يُبقي شعلة الحب مشتعلة والأمل حيّا في النفوس


عدل سابقا من قبل رأفت العزي في الثلاثاء مارس 05, 2024 4:00 pm عدل 2 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
omar a.
زائر
Anonymous



واقع يلفه الحلم  Empty
مُساهمةموضوع: الحلم هو الحلم عزيزي   واقع يلفه الحلم  Emptyالجمعة نوفمبر 01, 2013 7:56 am

قرات بعض صفحات من روايتك وهي بحق رائعة واعدك بالمتابعة
متمنيا النجاح لمنتداكم الواعد. تحية واحترام
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رأفت العزي
Admin
رأفت العزي


عدد المساهمات : 75
تاريخ التسجيل : 31/10/2013

واقع يلفه الحلم  Empty
مُساهمةموضوع: رد: واقع يلفه الحلم    واقع يلفه الحلم  Emptyالأربعاء نوفمبر 06, 2013 9:45 pm

omar a. كتب:
قرات بعض صفحات من روايتك وهي بحق رائعة واعدك بالمتابعة
متمنيا النجاح لمنتداكم الواعد. تحية واحترام

عزيزي الزائر عمر
اشكرك على صبرك في متابعة هذا الواقع المتعب وأعدك بمتابعة هذا الواقع كما عشناه
ولكن صبرك عليّ قليلا فالماء قليل وأنا لا أجيد السباحة إلا في بحر أمواجه عالية confused 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رأفت العزي
Admin
رأفت العزي


عدد المساهمات : 75
تاريخ التسجيل : 31/10/2013

واقع يلفه الحلم  Empty
مُساهمةموضوع: رد: واقع يلفه الحلم    واقع يلفه الحلم  Emptyالثلاثاء ديسمبر 27, 2022 7:02 pm

كان عصمت يعرف هذا المكان من قبل، ولم يأت إلى هنا بالصدفة.
منذ طفولتها تربط حسني وعصمت علاقة قوية ، حيث نشأوا معاً وتعلموا معاً في نفس المدرسة وكانوا يقضون معظم وقتهم مع بعضهم البعض. ومنذ هجرتهما إلى لبنان، استمروا في تعزيز صداقتهما وكانا يُعتبران أفضل أصدقاء.
بالنسبة لعصمت، فإن حسني كان بمثابة أخ له، فقد كان عزيزا عليه أكثر من أي شخص آخر في حياته. كان يعرف عن حسني أنه دائمًا ما يكون مستعدًا لمساعدة الآخرين وأنه يملك تفكيرًا سليم . ولهذا السبب، فإنه دائمًا ما كان يلتجأ إليه في الأوقات الصعبة. و" حسني " هو ابن صاحبة هذه الغرفة، وهو الذي أقنع والدته بجلب مفتاحها قبل يومين وأعطاه لعصمت.


حينما لجأت عائلتيهما من فلسطين الى لبنان، جمعتهما الصدفة في مكان واحد، في مسكن واحد، في غرفتين متجاورتين فصل بينهما جدار من الطين والقصب. فعائلة عصمت هُجّرت من مدينة حيفا، أما عائلة حسني فمن الجليل الغربي. وجنوب لبنان كان الجهة الأقرب جغرافيا الى سكان شمال فلسطين، فاستقرت العائلتين شرقي مدينة صيدا غربيّ تلة "مار الياس" وهي من أجمل التلال المشرفة على وسط المدينة وترتفع عن سطح البحر 155 متر.
وتقع تقع صيدا على سهل ضيق بحدود طبيعية تبدأ من النهر الاولي شمالا الى نهر سينيق جنوبا غربها يقع المتوسط وعلى سهلها تقع جزيرة صغيرة غير مأهولة ويحيط بها شرقا عدة تلال تبدأ من الشمال الى الجنوب : تل ظهر الحازم ما تعرف اليوم تلة شرحبيل يصل ارتفاعها الى 152 مترا وتعتبر هذه التلة من اغنى مناطق صيدا بالكهوف والمغاور القديمة وكانت غير مسكونة باستثناء دار وحيده بنيت فوق مقام كان يقال له مقام "شرحبيل بن حسنه" وموقع هذه التلة استراتيجي من الناحية العسكرية فهي تشرف وتتقابل مع التلال الاخرى شرقا وشمالا على مصب نهر الاولي وعلى تلال منطقة اقليم الخروب كما تشرف على السهل الشمالي للمدينة تقابلها تله عبر البرامية ارتفاعها 150-163م ثم تاتي تلة مار الياس ومن بعدها جنوبا تلة المية ومية بارتفاع 183 مترا وتليها تلة سيروب بارتفاع 190 مترا تقريبا و تشرفان على السهل الجنوبي للمدينة حيث يقع المخيم الثاني للاجئين الفلسطينيين مخيم" عين الحلوة"
لكن تلة مار الياس فتتميز بأشياء كثيرة حيث تقع قرية "حارة صيدا" عند حافتها الغربية ومن هناك تمتد مناظر طبيعية ولا اروع، مدينة صيدا وبساتينها من نهر "الأولي" شمالا وحتى نهر "سينيق " وسهل بلدة الغازية حتى منطقة الزهراني بساتينها ومصفاة النفط فيها جنوباً؛ كلها تمتد أمام ناظريك و تسحرك.
وفي الأفق على بعد ستة كيلومتر يمتد البحر بألوانه الساحرة فترى جزيرة صيدا، ميناؤها والمراكب الراسية فيه رافعة اشرعتها تنتظر هبوب الريح.. ويمتد نظرك نحو الجنوب فترى عدد من البواخر المنتظرة دورها لتملأ خزانتها بالنفط القادم عبر أنابيب خط الظهران من جزيرة العرب و ليأخذ طريقه إلى الدول المستهلكة.
وتمتاز (حارة صيدا) يقال أن في تلتها مقامان لنبيين مفترضين هما الياس الذي سميت التلة باسمه مركزًا لاحتفالات عيد القديس مار الياس، حيث يتوافد المئات من الناس إلى المنطقة للمشاركة في الاحتفالات والمناسبات الدينية. تقام صلوات دينية في كنيسة مار الياس ويتم تنظيم موكب تراثي يشمل الملابس التقليدية والموسيقى التقليدية. وتعد تلة مار الياس ملاذًا هادئًا ومناسبًا للاسترخاء والتمتع بالمناظر الطبيعية الخلابة. بالإضافة إلى ذلك، يمكنك الاستمتاع بالمشي وركوب الدراجات.
وعلى بعد أمتار قليلة لجهة الغرب هناك مقام النبي يحيى حيث يحتفل المسلمون هناك بمناسبات عديدة ويمتد أمام المقام سهل ضيق يكتظ بأشجار النارنج الرائعة. وفي موسم الزهر يعج ذلك المرج بعشرات العائلات الصيداوية والبيروتية فيقيمون الدبكة والرقص طوال أيام الجمعة والآحاد وعلى مدار فصل الربيع بين الأشجار والنباتات.
يقول الأهالي إن زيارة المقامين تجلب الراحة والسكينة للقلوب. بالإضافة إلى ذلك، تحيط الحارة بالعديد من المناطق الأثرية والتي تعود للعصور الفينيقية والرومانية .

هنا، على حافة هذا السهل ، كانت عائلتي عصمت وحسني تقيمان ما بين الفرح والسرور وبين المأساة
التي يعيشها الأهل مع الإحباط والألم
وانتظار الأخبار عن قرب التحرير.

كان جدّ عصمت لأمه، قد استأجر تلك الغرفة بعد النكبة مباشرة في نيسان 1948 ومعه زوجته واثنين من أبناءه الرجال، وابنته التي استشهد زوجها في معركة حيفا ومعها ولدان في الثامنة والرابعة . ثم التحقت والدة عصمت بالأسرة بعد سنوات ثلاثة ومعها ولدان وابنة واحدة .
أما تلك السيدة أم حسني فكانت تسكن مع ابنائها السبعة، أربعة ذكور وثلاث بنات؛ وهي امرأة طيبة عاملت كل الأولاد كأنهم ابنائها .
وعصمت لم ينسى معاملتها الخاصة له وهو صغير ولا فضلها عليه وهو في عزّ شبابه.
كانت الأسرتان تتشاركان الكثير من الأشياء مع بعضهما البعض. كانوا يشتركون في الطعام والموارد والوقت. كما كانوا يساعدون بعضهم في أي صعوبات تواجههم. وبسبب الوضع الصعب، كانت حاجة كل أسرة إلى الأخرى كبيرة.
عاش عصمت وحسني طفولة غير سعيدة ولكنها مليئة بالذكريات في تلك الغرفتين. كانوا يلعبون معًا ويدرسون معًا ويشاركون في مختلف الأنشطة. كانوا يخططون للمستقبل ويحلمون بتحقيق أمنياتهم.
رغم الصعوبات التي يواجهونها في حياتهم اليومية، إلا أنهما كانا يبتسمان ويستمتعان وكان الجميع يشعرون بالسعادة والمحبة في تلك الغرفتين الصغيرتين ويشكلون أواصر قوية بينهم.
عندما تفرقت العائلتين وذهبت كل واحدة في طرقها،بقيت تلك الأمكنة محطّ الحنين والذكريات بكل ما فيها .


هنا. اسمح لي عزيزي القارئ التوقف قليلا أمام قصة أم حسني، المرأة التي شعر عصمت أن حياته انقلبت بسببها :

أم حسني امرأة لبنانية جنوبية، رافقت عائلتها في عشرينات القرن الماضي إلى فلسطين لتحصيل الرزق ،مثل عائلات لبنانية كثيرة. و "خديجة" كانت أكبر أبناء تلك العائلة، جميلة الطلعة، طويلة القامة، وقع نصيبها على شاب فلسطيني من إحدى القرى، وارتضت به زوجا ورزقت منه بأربعة من الأبناء، وثلاثة من البنات، وقبل النكبة عام ٤٨ بأشهر قليلة، توفي زوجها على إثر نوبة قلبية وتركها بين أهله وعشيرته ، ولكن..عندما احتل الصهاينة قريتهم، تشتت كل العائلات، فحملت أبنائها إلى لبنان آملة في مساعدة عائلتها الذين صاروا من الميسورين، لكن أخوتها أنكروها على الفور ؛ تبرؤوا منها، بعدما ابتلعوا حصتها من ميراث أبيها.
لقد كان والدها يمتلك قطعة أرض لا تساوي إلا ليرات قليلة، لكن القدر ساق له شركة بترول أمريكية قامت بشرائها بسعر مرتفع لإقامة فوقها منشأة كبيرة؛ بل وأكثر من ذلك، فإن والدها كان قد وضع يده على قطة أرض كبيرة في " المشاعات " البلدية ، قام بزراعتها بالحمضيات وأصبحت من تلك البساتين المنتشرة على سواحل القرى أو المدن .. وبعد وفاة الوالد ، اقتسم إخوتها الميراث واعتبروها غير موجودة.
نصحوها برفع دعوى قضائية لكنها تراجعت بعد أن وعدها احد اخوتها بالمساعدة التي لم تتعدى بضع مئات من الليرات ودفع إيجار الغرفة مؤقتا على اعتبار أن عودة اللاجئين قريبة. احتضنت أبنائها السبعة وحيدة تتلقَى كما معظم الفلسطينيين مساعدة " وكالة الغوث " التي تشرف عليها " الامم المتحدة"

لكن مساعدة الوكالة لم تكن كافية لتلبية احتياجاتها واحتياجات أبنائها. وبسبب ضيق الحالة المادية، قررت البحث عن فرص عمل إضافية. قدمت طلبات للعمل في المنازل
وتعاون أهل الحي وجيرانها معها وعرضوا عليها بعض الفرص للعمل الجزئي في المواسم مثل جني أزهار النارنج أو قطاف الزيتون أو تساعد الحصّادين في الحقول القريبة .
رغم معاناتها وتحدياتها اليومية، تحاول المرأة المتألمة الحفاظ على روح المثابرة والتفاؤل. وتُعلّم أبناءها أن العمل الجاد والتعليم قادران على تحقيق تحسين في الحياة. ومع ذلك، فإن الوضع الاقتصادي الصعب يستمر في تشكيل تحدياً يومياً لها ولأسرتها؛ فوق ذلك جاء من يزيد هماً فوق همومها؛ قام
شقيق زوجها الوحيد وعرض عليها الزواج بعد أن توفيت زوجته،فرفضت، ولكنه، يا للمأساة، تزوج من امرأة غيرها وأودع عندها ولد وبنت من زوجته المتوفاة فلم تمانع، فعاشا وتربيا عندها لقاء مساعدة لا تذكر من والدهما، والظروف أجبرتها على أن تعمل ابنتها البكرية في بيت طبيب "كخادمة" وهرب ابنها الأكبر من مدرسته، وفاجئ والدته بعمله في إحدى الصيدليات، والأخ الذي يليه حذا حذوه، فهرب من المدرسة هو الآخر وعمل كبائع متجول للبوظة.. مع ذلك لم تعترض! فهي مجبرة
على إطعام عشرة أنفس!
لكن همها لم يتوقف هنا ، ومأساتها زادت عن الحدّ؟
لقد علمت أن ولدها البائع كان يحمل مرض أبيه، فأصيب هو الآخر بنوبة قلبية وهو يجر عجلته الهوائية في بلدة جدّه لأمه، فحمله بعض أبناء البلدة إلى المشفى كان من بينهم شخص، من سخريات القدر، أنه كان ابن خالته، فمات قبل أن يراه الطبيب. أما الولدان الأصغر، فإنهما أُدخلا المدرسة، أصغرهم كان حسني.
وكان يكبر عصمت بسنة او سنتين، مع ذلك، كانا يبدوان في سنٍّ واحدة؛ جمعهما القدر أيضا في مدرسة واحدة، عاشا معا شقاوة الطفولة، وحلاوة المراهقة، وأيام صبا باذخة الجمال، مليئة بالقصص والمغامرات والأحداث، ولم يفترقا أبدا.. وحتى عندما انتقلت عائلة عصمت إلى قلب المدينة بعد سنوات.. تبعتهم أم حسني، واستأجرت تلك الغرفة في هذا المجمع السكني، واستقرت فيه لسنوات قبل رحيلها إلى بيت أكبر بسبب زواج حسني ولدها.

ومن حسن حظّ عصمت، أن والدة حسني، كانت تُبقي على سند إيجار غرفتها لأسباب لم يعرفها.
والذي حدث، أنه وحينما قرر ترك منزل أبيه، طلب منها مفتاح الغرفة - مؤقتا- فاشترطت عليه شرطا كان قد حيره!
(" ... أحمق الخُطى ")

كان حسني قد أُرغم على الزواج من ابنة عمه، تلك التي تعيش معهم . أجبرته العادات والتقاليد، واكتوى هو وابنة عمه بنارها. لقد كانت فردوس، مخطوبة لأخيه الأكبر أحمد، واستمرت خطبتهما سنوات ثلاث، ثم تمرد أحمد على عائلته، وكان بالأصل سيئ الخلق، أُجبرت فردوس على القبول به؛ و عندما قام بفسخ خطبتها،لم تسعها الدنيا من الفرح لكن والدها شاء لها " الستر" وحمّل مسؤولية " سوء سمعة " ابنته، إلى أم حسني!
ثم توافق الجميع على تزويجها لحسني تحت الضغط والإكراه أيضا! :
" ماذا ستقول الناس عن ابنة عمك وقد تركها أخوك بعد كل تلك السنوات ؟!"
كانت طاعة الأهل فرضا من فروض الحياة الاجتماعية .. والتمرد شأن خطير قد يجعل الفرد منبوذا من العائلة ومن المجتمع .. وكان حسني حسن الأخلاق مطيع، مع انه كان كعصفور طيار يغط على أي غصن يستقبله.. يملك إلى جانب هيئته الجميلة روحا مرحة مُحبا للحياة ومحبوبا من جميع الذين عرفوه. انصاع أخيرا للأمر لكنه لم يرغبها كزوجة برغم أنها فتاة جميلة، لطيفة، عاقلة إلى أبعد الحدود، لا يمكن لأي شاب إلا أن يحلم بفتاة بمثل جمالها وسلوكها، وكانت تحب حُسني وتغار عليه .. ما هذا العذاب؟"
كانت الحياة صعبة على فردوس حسني معا، هو كان يعاملها بقسوة واستغلال، ولم يكن لديها حقوق أو حرية الاختيار.وهي راضية تعيش في ظل زواج تعسفي ومسيطر عليها تمامًا.
هو يعتبرها كأخته، وهي تحبه ولا تحصل عليه؛ ومما زاد في الطين بلة أنهم اسكنوهما في نفس الغرفة " إياها" فاكتشفت والدته بعد أشهر ثلاث، أنه لم يقرب من زوجته أبدا.. فعزوا السبب إلى وجود آخرين ينامون معهم !
عندها اجتمعت العائلة وقررت شراء منزل متواضع ولكن تأمن للعروسين غرفة مستقلة وهذا ما حدث بحد ذاته.
فالشرط الذي اشترطته أم حسني - لو تتذكرون - على عصمت لتعطيه المفتاح ، هو أن يعمل على إقناع ولدها /صديقه الحميم / بالالتفات إلى زوجته ، أن يعاملها كزوجة، وليس ابنة عم يتيمة الأم وأب وأن يهتم بعائلته الجديدة.
ثم حدث أن تغير حسني ولكن نحو الأسوأ في معاملته لزوجته، لم يكن حادّ الطباع، ولا متطلب، ومتعفف اللسان ، وكريم النفس لكنه كان يعلم أنها تعرف بعلاقته العاطفية مع فتاة بالرغم من إنجابها لخمسة أطفال في أربع سنوات. كانت تشعر بالغيرة والإهانة. وتعلم كم صار متعلق بتلك الفتاة التي أحبته بجنون ؛ عاشت كل حياتها رافضة الزواج حدادا على حبيبها الذي أصيب وهو في السادسة والثلاثين من العمر بسكتة قلبية هو الآخر ومات على الفور.
أما تلك السيدة المعذبة فقد أصيبت بعد سنوات بمرض الزهايمر وكانت تبكي عصمت كلما زارها من وقت لآخر.. تنظر في عينيه وتسأل بحيرة…. يستحضر كل ذكريات امرأة ظُلمت وكافحت وكان حظّها من الدنيا شقاء




عدل سابقا من قبل رأفت العزي في الخميس يوليو 13, 2023 2:50 pm عدل 3 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رأفت العزي
Admin
رأفت العزي


عدد المساهمات : 75
تاريخ التسجيل : 31/10/2013

واقع يلفه الحلم  Empty
مُساهمةموضوع: رد: واقع يلفه الحلم    واقع يلفه الحلم  Emptyالإثنين يناير 02, 2023 1:19 am

- 3 -

((الطمع))

أم حسني هي امرأة لبنانية جنوبية، رافقت عائلتها في عشرينات القرن الماضي إلى فلسطين لتحصيل الرزق ،مثل عائلات لبنانية كثيرة. و "خديجة" كانت أكبر أبناء تلك العائلة، جميلة الطلعة، طويلة القامة، وقع نصيبها على شاب فلسطيني من إحدى القرى، وارتضت به زوجا ورزقت منه بأربعة من الأبناء، وثلاثة من البنات، وقبل النكبة عام ٤٨ بأشهر قليلة، توفي زوجها على إثر نوبة قلبية وتركها بين أهله وعشيرته، ولكن..عندما احتل الصهاينة قريتهم، تشتت كل العائلات، فحملت أبنائها إلى لبنان آملة في مساعدة عائلتها الذين صاروا من الميسورين، لكن أخوتها أنكروها على الفور ؛ تبرؤوا منها، بعدما ابتلعوا حصتها من ميراث أبيها.
لقد كان والدها يمتلك قطعة أرض لا تساوي إلا ليرات قليلة، لكن القدر ساق له شركة بترول أمريكية قامت بشرائها بسعر مرتفع لإقامة فوقها منشأة كبيرة؛ بل وأكثر من ذلك، فإن والدها كان قد وضع يده على قطة أرض كبيرة في " المشاعات " البلدية ، قام بزراعتها بالحمضيات وأصبحت من تلك البساتين المنتشرة على سواحل القرى أو المدن .. وبعد وفاة الوالد ، اقتسم إخوتها الميراث واعتبروها غير موجودة.
نصحوها برفع دعوى قضائية لكنها تراجعت بعد أن وعدها احد اخوتها بالمساعدة التي لم تتعدى بضع مئات من الليارات ودفع إيجار الغرفة مؤقتا على اعتبار أن عودة اللاجئين قريبة. احتضنت أبنائها السبعة وحيدة تتلقَى كما معظم الفلسطينيين مساعدة " وكالة الغوث " التي تشرف عليها " الامم المتحدة" والتي كانت توزع عليهم حصصا غذائية شهرية، مع بعض كيلوات من الطحين لكل فرد من أفراد العائلات المنكوبة، وبسبب ضيق الحال عانت أم حسني ما عانت من الفقر والهمّ، ولم تجد من يساعدها باستثناء شقيق زوجها الوحيد، والذي توفيت زوجته، عرض عليها الزواج فرفضت، ولكنه، يا للمأساة، تزوج من امرأة غيرها وأودع عندها ولد وبنت من زوجته المتوفاة فلم تمانع، عاشا وتربيا عندها لقاء مساعدة لا تذكر من والدهما .
الظروف أجبرتها على أن تعمل ابنتها البكرية في بيت طبيب "كخادمة" وهرب ابنها الأكبر من مدرسته، وفاجئ والدته بعمله في إحدى الصيدليات، والأخ الذي يليه حذا حذوه، فهرب من المدرسة هو الآخر وعمل كبائع متجول للبوظة.. مع ذلك لم تعترض! فهي مجبرة على إطعام عشرة أنفس!
لكن همها لم يتوقف هنا ، ومأساتها زادت عن الحدّ؟
لقد علمت أن ولدها البائع كان يحمل مرض أبيه، فأصيب هو الآخر بنوبة قلبية وهو يجر عجلته الهوائية في بلدة جدّه لأمه، فحمله بعض أبناء البلدة إلى المشفى كان من بينهم شخص، من سخريات القدر، أنه كان ابن خالته، فمات قبل أن يراه الطبيب. أما الولدان الأصغر، فإنهما أُدخلا المدرسة، أصغرهم كان حسني.
وحسني هذا كان يكبر عصمت بسنتين، مع ذلك، كانا يبدوان في سنٍّ واحدة؛ جمعهما القدر أيضا في مدرسة واحدة، عاشا معا شقاوة الطفولة، وحلاوة المراهقة، وأيام صبا باذخة الجمال، مليئة بالقصص والمغامرات والأحداث، ولم يفترقا أبدا.. وحتى عندما انتقلت عائلة عصمت إلى قلب المدينة بعد سنوات.. تبعتهم أم حسني، واستأجرت تلك الغرفة في هذا المجمع السكني، واستقرت فيه لسنوات قبل رحيلها إلى بيت أكبر بسبب زواج حسني ولدها.

ومن حسن حظّ عصمت، أن والدة حسني، كانت تُبقي على سند إيجار غرفتها لأسباب لم يعرفها.
والذي حدث، أنه وحينما قرر ترك منزل أبيه، طلب منها مفتاح الغرفة - مؤقتا- فاشترطت عليه شرطا كان قد حيره!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رأفت العزي
Admin
رأفت العزي


عدد المساهمات : 75
تاريخ التسجيل : 31/10/2013

واقع يلفه الحلم  Empty
مُساهمةموضوع: رد: واقع يلفه الحلم    واقع يلفه الحلم  Emptyالإثنين يناير 02, 2023 1:20 am

-4-

(" ... أحمق الخُطى ")

كان حسني قد أُرغم على الزواج من ابنة عمه، تلك التي تعيش معهم . أجبرته العادات والتقاليد، واكتوى هو وابنة عمه بنارها. لقد كانت فردوس، مخطوبة لأخيه الأكبر أحمد، واستمرت خطبتهما سنوات ثلاث، ثم تمرد أحمد على عائلته، وكان بالأصل سيئ الخلق، أُجبرت فردوس على القبول به؛ و عندما قام بفسخ خطبتها،لم تسعها الدنيا من الفرح لكن والدها شاء لها " الستر" وحمّل مسؤولية " سوء سمعة " ابنته، إلى أم حسني!
ثم توافق الجميع على تزويجها لحسني تحت الضغط والإكراه أيضا! :
" ماذا ستقول الناس عن ابنة عمك وقد تركها أخوك بعد كل تلك السنوات ؟!"
كانت طاعة الأهل فرضا من فروض الحياة الاجتماعية .. والتمرد شأن خطير قد يجعل الفرد منبوذا من العائلة ومن المجتمع .. وكان حسني حسن الأخلاق مطيع، مع انه كان كعصفور طيار يغط على أي غصن يستقبله.. يملك إلى جانب هيئته الجميلة روحا مرحة مُحبا للحياة ومحبوبا من جميع الذين عرفوه. انصاع أخيرا للأمر لكنه لم يرغبها كزوجة برغم أنها فتاة جميلة، لطيفة، عاقلة إلى أبعد الحدود، لا يمكن لأي شاب إلا أن يحلم بفتاة بمثل جمالها وسلوكها، وكانت تحب حُسني وتغار عليه .. مع ذلك كان يعتبرها كأخته الصغيرة؛ ومما زاد في الطين بلة أنهم اسكنوها في نفس الغرفة " إياها" مع عريسها فاكتشفت والدته بعد أشهر ثلاث، أنه لم يقرب من زوجته أبدا.. فعزوا السبب إلى وجود آخرين ينامون معهم !
عندها، قررت العائلة استئجار منزل أكبر، يكون للعروسين غرفة مستقلة وهذا ما حدث.
لقد كان الشرط الذي اشترطته أم حسني على عصمت لتعطيه المفتاح ، هو أن يعمل على إقناع ولدها /صديقه الحميم / بالالتفات إلى زوجته ، أن يعاملها كزوجة، وليس ابنة عم يتيمة الأم وأب لا يهتم لانشغاله بعائلته الجديدة.

ثم حدث أن تغير حسني ولكن نحو الأسوأ في معاملته لزوجته، لم يكن حادّ الطباع، ولا متطلب، ومتعفف اللسان ، وكريم النفس لكنه كان يعلم أنها تعرف بعلاقته العاطفية مع فتاة وتشعر بالغيرة والإهانة. وتعلم كم صار متعلق بتلك الفتاة التي أحبته بجنون ؛ عاشت كل حياتها رافضة الزواج حدادا على حبيبها الذي أصيب وهو في السادسة والثلاثين من العمر بسكتة قلبية ومات على الفور.
أما تلك السيدة المعذب فقد أصيبت بعد سنوات بمرض الزهايمر كان عصمت يبكي كلما زارها من وقت لآخر.. تنظر في عينيه وتردد كلمتين "سرقوني، رموني " يستعيد ذكريات امرأة ظُلمت وكافحت وكان حظّها من الدنيا شقاء.
و يستعيد ذكرى السنوات الماضية عندما تعرف على ذاك الحيّ الذي كانت تسكنه.

كان عصمت ، يعرف هذا المكان تماما، وهو لم ينقطع يوما عن المجيء إليه منذ أن غادرت أم حسني سكنها القديم وانتقلت إلى هذا المكان الذي يسكنه الفقراء. كان يأتي لاصطحاب صديقه او العكس ويذهبان معا إلى أماكن مختلفة ، إلى دور السينما التي كانت في أوج شهرتها حيث كان جزء من العالم حينها يتعرف على باقي العالم عبر تلك الشاشات الفضية الرائعة . في المدينة، كان هناك ستة دور كبرى جميلة ساحرة، تمتلئ بروادها في كل الحفلات وفي كل الفصول.
أو يذهب الصديقان إلى نادي رياضي لممارسة لعبتهم التي كانا قد برعا بها، وأصبحوا من أبطال المدينة في لعبة "المصارعة الرومانية ". بعدها تحولا إلى لعبة بناء العضلات، وهي اللعبة الأقل شعبية ولكنها الأقرب إلى نفس الإنسان، لأنها اللعبة التي تبني عضلات الجسم وتغير شكله تماما ؛ إذ ليس من العبث أن سموها لعبة (كمال الأجسام) والمدينة حينها كانت متقدمة في جميع الألعاب الرياضية، وأبطالها يحتلون المراكز الأولى عربيا ودوليا في بعض الألعاب، منها المصارعة الرومانية ورفع الأثقال والسباحة، الجري و كمال الأجسام وغير ذلك من العاب فردية وجماعية . أو يذهب الصديقان إلى الأماكن الأكثر حميمية بالنسبة لهما، إلى مقرْ جمعية كشّاف "الجرّاح" والتي خصصت غرفة لفرقة فنية غنائية موسيقية، كانا يتدربان فيها على أصول الغناء،هوايتهما المفضلة. (عصمت وعدني منذ البداية أن الحديث في البداية يتناول أهم العناوين ثم يعود ليروي بعض التفاصيل عن تلك المغامرات المشتركة بينهما وهي جزء هام من حياته حينما يأتي أوان التفصيل إن أمكن ذلك .)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رأفت العزي
Admin
رأفت العزي


عدد المساهمات : 75
تاريخ التسجيل : 31/10/2013

واقع يلفه الحلم  Empty
مُساهمةموضوع: رد: واقع يلفه الحلم    واقع يلفه الحلم  Emptyالإثنين يناير 02, 2023 1:20 am

-5-
إنصات أو تنصت؟
قلت، أن عصمت كان يأتي إلى بيت حُسني ، ويعرف المكان تماما، زاره مئات المرات،لكنه لم يكن يعلم تفاصيل الحياة اليومية في هذا المجمع السكني؛ وعندما كان يأتي لاصطحاب صديقه ، ينتظر أمام الباب الرئيس ،أو يُطلق كلمة السر المتفق عليها بينهما، فإن تقاعس وتأخر، يقفز فوق تلك الدرجات، كأنه في سباق تحدٍ ويعبر الأروقة بخفة ورشاقة دون النظر الى شيء.
فهذا البناء الذي رمى "عصمت" نفسه فيه، مؤلف من طبقتين، مربع الشكل، تتوسطه ساحة سقفها السماء، بُنيّ منذ حوالي مائتي عام تقريبا.. وكان "خاناً " مثل خانات المدن الكبيرة في العهد العثماني. الطابق الأرضي منه يضم مجموعة من الغرف الكبيرة الواسعة، سقفها يعلو لستة أمتار تقريبا وكانت بمثابة مخازن للغلال، ومأوى للجِمال والبغال التي تنقل بضائع التجار. ساحته الداخلية بمساحة ستمائة متر م تقريبا، وهي المساحة التي من المفترض أن تكون خالية ولكن كان قد أقيم عليها معمل للسكاكر. ومحل بدائي للنجارة لصنع الصناديق الخشبية.
إلى جهة الساحة الشمالية، تمتد الأدراج العالية لترتفع نحو الطابق العلوي حيث الغرف الممتدة على طول أضلاع البناء الأربعة.
الممرات جميلة وتُطل منها على ساحة الخان عبر قناطر أموية بنيت من أحجار رملية ضخمة.. كل ضلع من أضلاع ذلك المربع يحتوي على عدد من الغرف مساوية لبعضها تقريبا وتقابل بعضها البعض.
مُلاّك هذا الخان كانوا قد أجّروا غرفه كبيوت تسكنها بعض العائلات، وكل عائلة تشغل غرفة واحدة أو غرفتين. !
وها هو عصمت ، كان في ذلك الصباح، يقف مكتوف اليدين بعدما شقّ الباب وأبهج غرفته بالنور ،وأخذ يجول بنظره كما يفعل المتلصصون . فلاحظ وجود أشياء كثيرة في ممرات الأروقة.. بعض حبال الغسيل تنتشر بكثرة أمام أبواب البيوت، قصبات صيد مركونة في بعض الزوايا، بعضها معلق بشكل أفقي بين أعمدة القناطر، دراجة هوائية مشدودة للجدار بجنزير. براميل حديدية مليئة بالمياه في أدنى جزء منها حنفية صغيرة.. والبراميل موزعة بالتساوي في رواقين متقابلين، ترتفع عن الأرض وتعلو فوق حافة المتكئ المطلّ على الساحة.
بعد قليل، شاهد رجلا يتجه نحوها، بدا أول الأمر بكامل أناقته، يرتدي قميصا زيتيا عسكريا ويعقد ربطة عنق جميلة، وعلى إحدى كتفيه يُلقي بمنشفة زرقاء.. وعندما تقدم تبين أن نصفه الأسفل ما زال في لباس النوم.. تنحنح بصوت عال عدة مرات، ثم بدأ يغتسل .. تبعه رجل آخر بدين وفعل مثله دون أن يتحدثا معاً، فلاحظ عصمت أن لا نصيب له في هذا الجانب من الخدمات، لكنه عرف بعد قليل أين، ودون سؤال.
كلما تقدم الوقت، كانت الحركة تزداد وترتفع الضوضاء من كل جانب.. صوت امرأة تصرخ كل بضع دقائق " يلا يا امي ، قوم ، يرضى عليك قوم " وكلما مرّت دقيقة من الوقت تزيد من حِدّة كلامها " قوم انقبر،ولا عُمرك ما تقوم" ثم تعود إلى لين القول " قوم يا تُقبرني قوم" !
امرأة أخرى تدعو بعض الجارات بصوت عال لتشاركنها القهوة.. وأخرى وضعت حلة كبير امام باب بيتها و "طشت" * الغسيل … وإلى جانبها أكوام الثياب، وتنكة مياه على بابور الكاز .
كان عصمت يرى ثلاثة أروقة أمامه بشكل واضح، انسحب خلف شقوق الباب بعدما شاهد أن معظم الأبواب صارت مفتوحة تماما . وفي إحدى الغرف المقابلة، واحدة من النسوة وضعت عيونه في موضع اشتباه.. لقد كان يرى ظهر تلك المرأة، وهي راكعة تنحني وتتمايل.. تكرر ذلك دون توقف.. فتذكر.. تذكر جيدا كيف كانت تفعل والدته عندما كانت يديها تغطس في جبلة الطحين وتعجنه بقوة ساعديها وإرادتها وتمنى ساعتها، لو استطاع مساعدتها كما كان يفعل في بيت أبيه.. فمن أدرى منه بتعب العجن والرقّ حينما كانت والدته تعجن اكثر من سبعين رغيفا كل يومين، ويرقّ تلك الأرغفة عند الفجر لتقوم بعمل آخر .
التفت نحو مكان ابعد فشاهد طالب وطالبة في سنٍ يافعة يُذاكران باكراً وقبل موعد ذهابها إلى المدرسة على وقع صوت الرجل الذي لم يتوقف عن السعال طوال الليل.. البنت تراوح في المكان والصبي كان يقطع المسافة ذهابا وإيابا على مدى رواقين ولكن تقدم نحو الرواق الثالث بعدما رأى باب الغرفة المهجور مفتوح بابها فتقدم نحوه ورمق عصمت بنظرة مستطلع وكان يبدو جريئا وقويا ومهذبا ، توقف في مواجهة عصمت والقى عليه تحية الصباح بالفرنسي ثم ذهب نحو الفتاة حادثها ودخل المنزل.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رأفت العزي
Admin
رأفت العزي


عدد المساهمات : 75
تاريخ التسجيل : 31/10/2013

واقع يلفه الحلم  Empty
مُساهمةموضوع: رد: واقع يلفه الحلم    واقع يلفه الحلم  Emptyالإثنين يناير 02, 2023 1:21 am

-6-
(( يا بحرية هيلا…)

في ذلك الصباح الباكر تتعالى أصوات بعيدة عن المبنى قليلا ؛ كان عصمت يعرف أصحابها جيدا: صوت مراكب الصيادين القادمة ببطئ نحو الميناء الصغير، وصوت محركاتها العاملة على الديزل تبقبق فوق الماء برتابة " بق بق بق"و تنذر الناس المحتشدين على رصيف الميناء بقدومها ، أولئك الأشخاص "الذواقة" المحبين شراء السمك الطازج، والهواة المحبين حضور هذا المهرجان الصغير والجميل مثل عصمت وأمثاله.. وما أن تتوقف المراكب حتى يسارع الجمع المحتشد جيئة وذهابا ويسدون طريق الصيادين ويغزون بأعينهم سلالهم وما يحملون. إن راق لهم ما أرادوا، تبعوا الصياد إلى قاعة المزاد العلني. فهناك من يديره من المختصين الموثوقين من الطرفين : الصيادون والمشترون، ومنهم تجّار الجملة الباعة المتجولون، أو المنافسين بشدّة لألئك الفقراء أصحاب المطاعم المشهورة.
كان عصمت يعرف كل تفصيل مع انه كان يقف هناك، عند باب غرفته، فهو يعرف أصوات السماسرة حينما يُعزف لحن التسويق والتشويق بحرارة في قاعة المزاد العلني .. ف " ميرة " السمك لا تبعد إلا أمتار قليلة عن بوابة المبنى، حيث كان عصمت يتوقف كثيرا عندما يأتي إلى ذلك المكان، ويشارك الجموع في ذلك المسرح الحيّ، وكان مثل الكثيرين يشعر بالفرح والحبور وهو يشاهد الصيادين وهم يحملون ما غنموا من أسماك، يقفون حتى يأتي دور أحدهم، فيضع أسماكه على البلاط المخصص ويقوم العم أبو حسن بنبشها وفردها أو تعريبها حسب طبيعة الزبائن - وهو الخبير- ثم يلعلع صوته بلهجته الصيداوي المحبوبة : " يلا يا شباب.. إبن الحلال يفتح المزاد. وهوول يا اخوان . هوول، ب ثلاث ليرات " ثم يأتي من يزوّد : " أربعة. ستة ليرات. ثماني." هنا. ما عليك إلا أن تتوقف وتنظر في وجه الصياد المتوتر، وهو ينفث دخان سيجارته بعصبية ، وعيونه الغائرة تتابع أصوات المزايدين برجاءٍ أن تعلو قيمة " الشروة" دون أن ينطق بكلمة واحدة، فتحتار من قوة صبره رغم غليانه..!
عليك هنا، أن تفكر في تلك اللحظات، في ساعات الليل الطويلة التي قضاها ذلك الصياد مثابرا على الصبر؟ يقاوم النعاس والبرد، يجلس على حافة زورقه الصغير طويلا دون حِراك ، و إلى جانبه فانوس مضيء؛ يصبر، ويصبر، يتحسس خيوط الصيد مراراً .. يساوره الأمل في اهتزاز كل خيط بصيد ثمين، فتعرف في الحال من خلال قراءة قسماته ، ماذا جنى وكيف كانت غلّته من الصيد ! فهو لا يستطيع تقدير ثمنه .. الذي يفعل ذلك هو السمسار . تعبه جهده قدِّره الآخرون . تلك المشقة رهن بمزاج العرض والطلب .. ودائما هو الخاسر! هل عرفتم صياد سمك يعيش في " بحبوحة "؟! ف الصيادون لا ينامون في معظم الليالي ، ومعظم النهار يقومون بصيانة أدواتهم ، ترقيع شباكهم الممزقة ، إفراغ مراكبهم مما تسرب إلى داخلها من مياه؛ تحضير الطعوم، وتجهيز صنارات الصيد ، يختبرون أشرعة مراكبهم العتيقة، يتفقدون وقود المحركات؛ وفي ساعات قيلولتهم يستمعون إلي نشرات الطقس وحركة الرياح وأخبار المدينة. كل هذا، ينبؤك لتعرف عندئذ كل شيء، ربما.. تعرف، معنى الكدح والتعب الذي يشعر به الصيادون عندما ترسو البيعة على من يدفع السعر الأعلى. حينها يدسّون المبلغ في جيوبهم ويمضون إلى شقاء أيام قادمة، ماطرة ربما، لا يرجون فيها إلا عدل السماء.
أما البحر فلا يبعد سوى عشرة خطوات عن بوابة  هذا المجمع و لا يفصله سوى مبنى " الجمارك " المستطيل، والضيق المساحة، والذي كانت أمواج البحر تلاطمه ليل نهار. وبالقرب منه، مقهى يتفرع عنه "سقالة" خشبية تمتد فوق الماء لأمتار قليلة، قائمة على عدد من الأعمدة مزروعة في قعر البحر.. لها عشاقها الذين يسعدون وهم يرتشفون قهوتهم فوق الموج حيث يسافر خيالهم مع كل موجة عند كل صباح.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رأفت العزي
Admin
رأفت العزي


عدد المساهمات : 75
تاريخ التسجيل : 31/10/2013

واقع يلفه الحلم  Empty
مُساهمةموضوع: رد: واقع يلفه الحلم    واقع يلفه الحلم  Emptyالإثنين فبراير 27, 2023 10:29 pm

-7-
الفصل الثاني

((عندما يجتمع الفقراء))

سألتُ عصمت:
- لِمَ توقفت أمام باب غرفتك
هناك، لتصف لنا المكان من
الداخل وما حوله من الخارج،
ولَم تخطو خطوة واحدة إلى الأمام؟!

- لأن منعطفا هاماً هو من أخطر، وأهم المنعطفات التي مررّت فيها على الإطلاق ، فهناك تبلور مستقبلي،
وكان لي تاريخ جديد.
وأنا لم اتوقف هناك لأصف لك المكان فقط! بل سأحدثك عن الناس أيضا.
ومنهم ، إنسان ، سيعمل القدر على
ربط مصيري بمصيره؛ قل لي :
هل شعرت بالملل؟!

- لا …ولكن لا أريد لي أنا والقارئ،
تركك أمام باب غرفتك مسجونا
ونذهب لمكان آخر أكثر حركة.

- لا شيء..! لا شيء يربطك معي،
اذهب حيث تريد! ولكن .. صدقني، سوف تعود لأخبرك بالكثير مما لا تعلم.. لن اطرح أمامك فلسفة مستعارة
مبهمة، أو وعظا أخبرك فيه أن
تعمل لآخرتك وتنسى بيتك.
تعال... اقترب قليلا لأهمس في أذنك : سأخبرك ببعض الأسرار التي لم تعد كذلك، لكن، حينما أخبرونا بأن
أميط عنها اللثام، وأوهمونا انهم
كشفوا الأسرار، كذبوا علينا.
فصبرك عليّ قليلا ، لأعرفك
والقارئ أولا على سكان هذا
المجمع السكني والذي اسمه
" خان البحر ". غالبية سكانه ،
من أماكن مختلف مسلمين
ومسيحيين ويهود، لبنانيون
و فلسطينيون ، ابناء مدينة وفلاحون، منهم من انحدر من مناطق ريفية مختلفة / من القرى المجاورة للمدينة.. أولئك الفقراء، الذين رغم انتمائهم لمجتمع ريفي، إلا انهم لا يملكون أراض زراعية واسعة، بل مساحات صغيرة ضيقة ورثوها عن أجدادهم، معظم نُصُبها أشجار زيتون، بالكاد تكفى عائلاتكم مؤونة العام .. وهناك بعض أشجار التين واللوز والتوت وغرسات الكرمة، وبعض مساحات صغيرة يزرعون فيها بعض الحبوب كالفول أو الشعير أو القمح في غالب السنين؛ وحينما نزحوا الى المدينة، كان معظمهم بلا عمل، فاتجه البعض القليل منهم نحو تعلم واحدة من المهن، مثل النجارة والحدادة والدهان وصناعة البلاط وغير ذلك .. وبعضهم اتجه نحو قطاع الخدمات، حيث برع العديد منهم في إدارة الفنادق والمطاعم والملاهي والحانات المختلفة. وعندما كبر أبناءهم، توسطوا من أجل إلحاقهم بوظائف الدولة : في السلك العسكري، الجيش والدرك والأمن العام والجمارك وبعض دوائر المدنية واعتلى البعض منهم
مراكز وظيفية عالية .

لو اردت التعرف على السكان أكثر،
سوف تجد أغلبيتهم من المسيحيين، عائلتين من اليهود، عائلتين مسلمتين من سكان المدينة، عائلتين فلسطينيتين منهم السيدة " أم حسني" صاحبة
الغرفة التي سكنتها "
ويستطرد عصمت : لو كنت هناك وعاشرتهم، سوف تجدهم من أولئك الناس الطيبين، المسالمين، برغم انتمائهم الديني المختلف إلا أن بيوتهم مشرعة الأبواب دائما، وجميع ابنائهم ولدوا وكبروا وكانوا يعتقدون ان كل البيوت بيوتهم. لقد تعودوا منذ صغرهم على أن يكونوا في كل البيوت، فلا ابواب مقفلة في وجوههم، يدخلونها ساعة يشاؤون.. فهذه الام ترضع ابن جارتها، وتلك تطعم ابناء جارة أخرى، وفي غياب إحداهن، يتسابقن لرعاية أبنائها ويتخمونهم بالطعام. وعند ولادة إحداهن يقمنّ بمساعدة "النفاس" او تلك التي المّ بها مرض كأنها فرد من عائلاتهم.
وعندما يحلُّ عيد من الأعياد يشاركون بعضهم البعض كأن العيد للجميع.. ف في الميلاد كنت ترى الزينة في بيوت المسلمين كما تراها عند أصحاب العيد ، في رمضان يحترم الجار جاره. المسيحي لا يأكل علنا ولا يدخن حرصا على مشاعر جيرانه، بل ويشاركون إخوانهم المسلمين في إعداد وتناول طعام الإفطار سويا . وبرغم أن العائلتين اليهوديتين تتوسطان عائلتين فلسطينيتين إلا أن هؤلاء كانوا يحترمون بعضهم، والجميع يشتم السياسة التي لا إرادة لهم في مساراتها.
وترى كبار السن من الرجال يجلسون في المساء كلٌ يحمل كتابه؛ كلٌ يبتهل إلى الله بطريقته، بحسب معتقده وإيمان، فترى المسيحي يردد مع صوت المنشد ترانيم ليلة الجمعة، وتسمع مسلم يردد بأعلى الصوت سورة مريم وكأنه يقول لجاره إن الدين يجمعنا وأنك جار ولي حميم .
عائلات كانت تعيش بأمن وأمان، لا ينغص عيشهم شيء، ولا يفرق بينهم سوى الموت. لكن عصمت، في ذلك الصباح، كان وحيدا، وغريبا، في هذا الحي الجميل بإستثناء طيف صديقه الذي غادر المكان منذ سنوات ثلاث.

-8-
عندما تشعر الجيوش بهزيمتها، تترك الساحات المفتوحة وتحتمي خلف القلاع.

((القلعة))
اقفل باب غرفته وحمل نفسه واتجه نحو السلالم ماراً أمام جميع البيوت المشرعة أبوابها بخطى سريعة. يُلقى التحية على من صدف وجودهم في الطريق بارتباك.. نزل السلم كل درجتين ثلاثة درجات دفعة واحدة حتى كاد يتعثر على واحدة منها حينما انزلقت رجله !
توجه مباشرة وبلا تفكير نحو المكان الذي كان يستهويه؛ القلعة البحرية. كان يحب الجلوس هناك منذ سنين طويلة وكلما أتيحت له الفرصة، صيف شتاء.
كانت القلعة شبه مهجورة، مهملة، ومعزولة، وسكان المدينة لا يهتمون كثيرا بها، لأنهم تعودوا على رؤيتها منذ ولادتهم،ومعظمهم لا يعرف تاريخها.. من هم بُناتها الأوائل، متى، ولماذا؟
لم يكن يدخلها سوى بعض السياح الأجانب، يلتقطون الصور التذكارية أمام بعض جدرانها المنهارة، و حجارتها الضخمة، ويجلسون على المدافع الحديدية المنصوبة او المركونة هنا وهناك ، أو تلك التي ما بين الحفر، لأخذ الصور ثم يغادرون.
أولئك السياح الذين يأتون وبيدهم بعض كتيبات صغيرة، و خرائط ورقية كدليل جغرافي الأمر الذي كان يترك عند بعض السكان ريبة وينظر البعض إليهم على أنهم من الجواسيس! ".
و للقلعة " حارس" فعلي، العم" ابو عدنان" رجلا طويل القامة عريض المنكبين له وجه دائري الشكل، عيونه واسعة وصوته رخيم سلس رغم أنك تعتقد أن في حلقه شيء عالق وهو يحدثك، وكان في غاية اللطف باستمرار .
يحب حكايات البحر ويرويها. يحب القلعة يعشقها . وعلى مدى سنوات ،
كان يروي لعصمت عن تاريخها حكايات كثيرة :
" بناها الفينيقيون ،واستخدمها الهكسوس عندما حكموا مصر.. وعند هزيمتهم استراح فيها تحتموس الثالث، ثم أعجبت الإسكندر، وأقام فيها عدّة اسابيع عندما حاصر صور. استثمرها الرومان ك ميناء ثم صارت حصنا للصليبيين " يروي أبو عدنان ذلك ويفصّل.

كانت تلك القصص تبني ذاكرة عصمت وتحفزه لمعرفة التاريخ؛ سأله مرة : ماذا عن خبرية صيدا في كتب التاريخ، مع ملك الفرس حين حاصرها قالت صيدا : " النار ولا العار " هل بالفعل احرق السكان المدينة وأنفسهم أم هي أسطورة من نسج الخيال ؟!
"اسمع يا بني..
هذه المدينة كما أبناء كل هذا الساحل " الفينيقي" تعرضوا لغزوات كثيرة عبر التاريخ … من قدماء المصريين والآشوريون والبابليون والفرس والإغريق والرومان والعثمانيون و ليس أخيرا الفرنسيون. وإن جميع من مروا انتهوا، وانتهى وجودهم إلا في الكتب التي يؤلفها كتّابهم الذين يكتبون التاريخ كما يحلوا لهم؛ أما نحن، ابناء المنطقة، بقينا متجذرين هنا منذ آلاف السنين "
.
سأله عصمت عن حكاية السراديب الغارقة تحت الماء، والتي قيل انها تصل ما بين القلعتين البحرية والبرية؟

- " عمال الآثار قالوا انهم وجدوا في الماضي تلك الطريق والأغرب انهم وجدوا في الممرات رماحا طويلة،
يتعدى طول الواحد منها ستة أمتار! وسيوفا كانت ما تزال تلمع، وأن أنصالها قطعت شجرة سنديان عتيقة بضربة واحدة عندما جربوها!
و دروعا يعجز عن حمل الواحد
منها رجلين قويين ! ."

كلما كان عصمت يستمع لأحاديث ابو عدنان، يحدّق في وجهه، ليرى ملامحه جيدا، لمعان عينيه ، ذلك الشغف والخيال الواسع . لغته البسيطة المصحوبة بإشارات قد تبدو مضحكة لمن لا يعرف هذا الشخص عمّا يتحدث .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رأفت العزي
Admin
رأفت العزي


عدد المساهمات : 75
تاريخ التسجيل : 31/10/2013

واقع يلفه الحلم  Empty
مُساهمةموضوع: رد: واقع يلفه الحلم    واقع يلفه الحلم  Emptyالإثنين فبراير 27, 2023 10:32 pm


-8-
عندما تشعر الجيوش بهزيمتها، تترك الساحات المفتوحة وتحتمي خلف القلاع.

((القلعة))
اقفل باب غرفته وحمل نفسه واتجه نحو السلالم ماراً أمام جميع البيوت المشرعة أبوابها بخطى سريعة. يُلقى التحية على من صدف وجودهم في الطريق بارتباك.. نزل السلم كل درجتين ثلاثة درجات دفعة واحدة حتى كاد يتعثر على واحدة منها حينما انزلقت رجله !
توجه مباشرة وبلا تفكير نحو المكان الذي كان يستهويه؛ القلعة البحرية. كان يحب الجلوس هناك منذ سنين طويلة وكلما أتيحت له الفرصة، صيف شتاء.
كانت القلعة شبه مهجورة، مهملة، ومعزولة، وسكان المدينة لا يهتمون كثيرا بها، لأنهم تعودوا على رؤيتها منذ ولادتهم،ومعظمهم لا يعرف تاريخها.. من هم بُناتها الأوائل، متى، ولماذا؟
لم يكن يدخلها سوى بعض السياح الأجانب، يلتقطون الصور التذكارية أمام بعض جدرانها المنهارة، و حجارتها الضخمة، ويجلسون على المدافع الحديدية المنصوبة او المركونة هنا وهناك ، أو تلك التي ما بين الحفر، لأخذ الصور ثم يغادرون.
أولئك السياح الذين يأتون وبيدهم بعض كتيبات صغيرة، و خرائط ورقية كدليل جغرافي الأمر الذي كان يترك عند بعض السكان ريبة وينظر البعض إليهم على أنهم من الجواسيس! ".
و للقلعة " حارس" فعلي، العم" ابو عدنان" رجلا طويل القامة عريض المنكبين له وجه دائري الشكل، عيونه واسعة وصوته رخيم سلس رغم أنك تعتقد أن في حلقه شيء عالق وهو يحدثك، وكان في غاية اللطف باستمرار .
يحب حكايات البحر ويرويها. يحب القلعة يعشقها . وعلى مدى سنوات ،
كان يروي لعصمت عن تاريخها حكايات كثيرة :
" بناها الفينيقيون ،واستخدمها الهكسوس عندما حكموا مصر.. وعند هزيمتهم استراح فيها تحتموس الثالث، ثم أعجبت الإسكندر، وأقام فيها عدّة اسابيع عندما حاصر صور. استثمرها الرومان ك ميناء ثم صارت حصنا للصليبيين " يروي أبو عدنان ذلك ويفصّل.

كانت تلك القصص تبني ذاكرة عصمت وتحفزه لمعرفة التاريخ؛ سأله مرة : ماذا عن خبرية صيدا في كتب التاريخ، مع ملك الفرس حين حاصرها قالت صيدا : " النار ولا العار " هل بالفعل احرق السكان المدينة وأنفسهم أم هي أسطورة من نسج الخيال ؟!
"اسمع يا بني..
هذه المدينة كما أبناء كل هذا الساحل " الفينيقي" تعرضوا لغزوات كثيرة عبر التاريخ … من قدماء المصريين والآشوريون والبابليون والفرس والإغريق والرومان والعثمانيون و ليس أخيرا الفرنسيون. وإن جميع من مروا انتهوا، وانتهى وجودهم إلا في الكتب التي يؤلفها كتّابهم الذين يكتبون التاريخ كما يحلوا لهم؛ أما نحن، ابناء المنطقة، بقينا متجذرين هنا منذ آلاف السنين "
.
سأله عصمت عن حكاية السراديب الغارقة تحت الماء، والتي قيل انها تصل ما بين القلعتين البحرية والبرية؟

- " عمال الآثار قالوا انهم وجدوا في الماضي تلك الطريق والأغرب انهم وجدوا في الممرات رماحا طويلة،
يتعدى طول الواحد منها ستة أمتار! وسيوفا كانت ما تزال تلمع، وأن أنصالها قطعت شجرة سنديان عتيقة بضربة واحدة عندما جربوها!
و دروعا يعجز عن حمل الواحد
منها رجلين قويين ! ."

كلما كان عصمت يستمع لأحاديث ابو عدنان، يحدّق في وجهه، ليرى ملامحه جيدا، لمعان عينيه ، ذلك الشغف والخيال الواسع . لغته البسيطة المصحوبة بإشارات قد تبدو مضحكة لمن لا يعرف هذا الشخص عمّا يتحدث
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رأفت العزي
Admin
رأفت العزي


عدد المساهمات : 75
تاريخ التسجيل : 31/10/2013

واقع يلفه الحلم  Empty
مُساهمةموضوع: رد: واقع يلفه الحلم    واقع يلفه الحلم  Emptyالإثنين فبراير 27, 2023 10:33 pm

-9-

الفصل الثاني

(بطل من أرض السواد)

كان أبو عدنان يُطلق على
عصمت لقبا لا يحبه:
"ستيف". مع انه كان مغرما بذلك البطل العالمي الذي فاز ببطولة العالم لكمال الأجسام عام 1950 وأصبح فيما بعد من أشهر نجوم هوليوود شعبية في العالم وأسند إليه بطولة افلام تاريخية أشهرها كان سلسلة أفلام " هرقل" وكان البطل ستيف ريفز يملك قواما متناسقا رائعا, حتى أن اسم اللعبة تغيّر بعد ظهوره، من "بناء العضلات" إلى مصطلح جديد : جمال الأجسام او كمال الأجسام ، ووضعت المقاييس العالمية لذاك " الكمال الجسماني " على مقاييس ذلك البطل الذي خطف عقول معظم شباب الخمسينات والستينات في كل العالم ، وخصوصا في الوطن العربي، حيث فاز مليح عليوان ابن الزيدانية في بيروت بالمركز الرابع في بطولة العالم في نفس اللعبة عام 1957 ثم حلّ البطل المصري عبد الحميد الجندي بطل العالم مرتين عام 1963-1964. وكرّت سبحة أبطال اللعبة على امتداد المشرق والمغرب العربي، وفي هذا السياق، اختفى اسم عنترة من التداول ليحل محله اسم " ستيف ريفز" في إشارة إلى القوة والبطولة : " حضر ستيف، يلا يا ستيف، كأنك ستيف، اوعى تفكر حالك ستيف " . كما اختفت عيون عبلة وحل محلها غنج مارلين كما حلّ الفيس محل عبدالوهاب وشعر البيتلز أسقط شعر شمشون وهكذا.. ولم يشذ عصمت عن أبناء ذلك الجيل ، فترك لعبة المصارعة الرومانية التي يهواها واتجه إلى لعبة بناء العضلات في النصف الأول من الستينات.. وكان البحر وقلعة صيدا، هما المعبد الذي من خلالهما يحاكي جسده الشمس ليكتسب من شعاعها اللون الذي يحبه كل رياضي. ولقد تعود في أوقات عطله أن يكون هناك مثل بعض الرياضيين؛ فكيف وإن كان هو نفسه قد أصبح بطلا رياضيا مرموقاً، حاز قبل أشهر قليلة من انتقاله إلى سكنه الجديد، على المركز الثاني بعد بطل لبنان " سمير بنوت" والذي أصبح فيما بعد بطلا للعالم ومن أشهر الأبطال العرب في هذه اللعبة.
اشترك في عدة مباريات على مستوى أندية لبنان في بداية العام 1967 وفاز على جميع الفئات في مباريات " سيد الشاطئ اللبناني" في الجنوب وفوق ذلك، كان سبّاحا ماهرا يقطع في البحر مسافات طويلة ولا يشعر بالتعب ؟!
لذلك كله كان يحب المكوث في تلك القلعة لساعات، وأحيانا يسلي نفسه بالصيد بقصبة وصنارة يتركها هناك .
أما ذلك اليوم؛ اليوم الذي خرج فيه من تلك الغرفة العفنة ، لم يذهب من أجل حمام شمسي، ولا للاستماع إلى أبو عدنان، بل ليعزل نفسه : للبكاء والغناء.!

كان في ذلك اليوم يحمل مشاعر العاشق البائس، المحطم، والمخدوع ! لا يريد لأحد أن يحدثه او يراه.. حتى لو كان ذلك الشاعر العراقي الصديق " أحمد الصافي النجفي " الذي تعرف عليه قبل سنتين ، وكان الشاعر يقيم في لبنان، يتردد على مدينة صيدا التي كان يعشقها ،و قلعة المدينة كانت تستهوي حسه الشعري فيجلس لساعات، لا يكلم أحدا ويتجاهل المتطفلين؛ حتى أتى نهار، قام هو بمفاجئة عصمت بسؤال:
" لِمّ لَم تسألني سؤالا واحد طوال سنة، التقينا فيها هنا كثيرا . ألم يُثرك سؤال، ماذا يفعل بدوي مثلي يجلس بلباسه العربي في عزّ الحرّ، لا يصطاد ولا يسبح؟!"
بعدها، أصبحا صديقان حتى فاض الشاعر يوما بقصة حياته ، عذاباته ،مرضه، غربته عن أرض "السواد" قال فيها :
" أری في غربةِ الإنسانِ سجناً
فكيف بسجنِ إنسانٍ غریبِ؟
وحكى لعصمت الكثير من نضالاته ضد الاستعمار والاستبداد فقال :
لئن أُسْجَنْ فما الأقفاصُ إلا
لليثِ الغابِ أو للعندليبِ…
وقال في موضع آخر:
" ألا يا بلبلاً سجنوك ظلماً
فنُحْتَ لفُرقةِ الغصنِ الطيب "
في أحد الأيام سأل عصمت، هل تقرأ؟ وفي اليوم التالي أهداه دواوين ثلاث تصفحها ولم يقرأها، حتى جاء اليوم الذي ندم فيه وشعر بحزن شديد بعد مرور تسع سنوات :
كان عصمت يتصفح جريدته
كالعادة، وإذ به يقرأ خبرا هزّه من الأعماق : " لقد كان وحيدا في أحد شوارع بيروت قريبا من خط التماس بين" الشرقية والغربية " كان يحمل علبة سردين ويحاذر.. ف الجوع أجبره على الخروج من نُزله المتواضع، مشى نحو دكان البائع ، فحذّرة من ذاك المتمترس فوق سطح من أسطح البنايات العالية.. كان ذلك القنّاص يملك بيده أن يعفو أو يقتل من يشاء من المارّة، فاختار في تلك الساعة القتل.،عندما حاول شاعرنا قطع الشارع سقط جريحا برصاصة أنهت كل عذاباته. بعدها، سُمح للذي كان يحتضر قبل أيام من وفاته العودة إلى بغداد فقال وهو على فراش الموت :
" يا عودةً للدار ما أقساها
أسمعُ بغداد ولا أراها".
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رأفت العزي
Admin
رأفت العزي


عدد المساهمات : 75
تاريخ التسجيل : 31/10/2013

واقع يلفه الحلم  Empty
مُساهمةموضوع: رد: واقع يلفه الحلم    واقع يلفه الحلم  Emptyالإثنين فبراير 27, 2023 10:33 pm

-10-
الفصل الثاني

(( بَحْرُنا واحِدٌ ))
قَالَ لِي عِصْمت أنه لَمْ يأتِ في ذلكَ الصَّباحِ مِنْ أَجْلِ أَيّ شيءٍ، بَل اتَّخَذَ مَكَانًا مُنْعَزِلًا، وجَلَسَ عَلَى حَجَرٍ ضَخْمٍ منْ أَحْجارِ القَلْعَةِ خَلْفَ جِدارٍ مَهْدومٍ، واضِعًا أَقْدامَهُ في الماءِ، يُراقِبُ الأُفُقَ البَعيدَ وخَيالَهُ يذْهَبُ لأَبْعَدِ مِنْ رُؤياهِ، يُغْمِضُ ويَعْلو فَوْقَ الغَيْمِ ويُرْسِلُ مَعَ النَّوارِسِ عَيْنَيْهِ؛ فَالبَحْرُ هوَ البحرُ، فيْ مَدينَتِهِ هَذِهِ، أوْ في مَسْقَطِ رَأسِهِ، حَيْفاه .
هُناكَ تَألّمَ حينَ بَكى وطَنًا ضاعَ، يَبْكي حُبًا يَحْمِلُ ذاتَ الأَوْجاعِ.
البحرُ هو البحرُ، والموجةُ هي الموجةُ، في هُويِّتِها شَرْقيَّةٌ، مِنْ طَرْسوسَ مُرورًا بِأَنطاكِيةَ حَتى سيناءَ، وشاطِئِها هو نَفْسُ الشَّاطئِ، هُنا، وهُناكَ، والمَوْجَةُ تَغْضَبُ أَحْيانًا لَمَّا يَهْجُرُهُا النَّاسُ، وبِقوُّةٍ تُزَمْجِرُ، حينَ يَشْكو القلّةَ بَعْضُ الصَّيادينَ، لَكنْ يَعْشَقُها كُلُّ المَنْفيينَ إلى بِلادِ الغُرْبَةِ، حينَ تَحْمِلُ مَعَ الرِّيحِ أَوْجاعَهُمْ وأَغانيهمْ للوَطَنِ.
كانَ عِصْمَتُ حَزينًا ويُنْصِتُ لِهْمهَماتِ البَحْرِ، والأَمْواجُ بَدَتْ لَهُ كَسْلى، كانَتْ تَتَقَدَّمُ بِبُطْءٍ نَحْوَ مَكانِهِ ، اقْتَرَبَتْ مِنْهُ بِدَلَالٍ وَلَاعَبَتْ بِغُنْجٍ قَدَميهِ، لَكنْ في تِلْكَ السَّاعَةِ أَغْضَبَها ضَعْفُهُ، لمْ تَسْمَعْ مِنْهُ شَكْواهُ، وَحينَ أَدارَ لَها ظَهْرَهُ، صَفَعَتْهُ بِقوَّةٍ بَلَّلَتْ مِنْهُ بَعْضَ قفاه .. فَأَمْواجُ البَحْرِ تَعْرِفُهُ، لمْ يَخْشَها يَوْمًا إِنْ جَمَحَتْ وَ جَرَفَتْهُ مَع التَّيارِ، ثُمَّ عادَتْ تَرْشُقُهُ وتُلاعِبُهُ وتُغْريهِ فَلمْ يَتَرَدَّدْ. خَلَعَ في الحَالِ كُلَّ ثيابِهَ وَرَمى نَفْسَهُ بِقوَّةٍ تَحْتَ شَفيرِ أَدْنى مَوجَةٍ وَغاصَ، غاصَ بَعيدًا تَحْتَ الماءِ، وكَأنَّ البَحْرَ أَهْداهُ ذَيْلَ سَمَكَةٍ وأَرْجُلَ ضِفْدعِ نَهْريِّ بالغٍ، غاصَ عَميقًا جِدًا، وكُلَّما غاصَ شَعَرَ بالسَّكينَةِ وَالهُدوءِ!
كَمْ مَرَّةً اعْتَقَدَ أَصْحابُهُ أَنَّ البَحْرَ ابتلَعَهُ وَضاعَ ؟ لَكنْ في ذَلكَ الصَّباحِ قَدْ نَسيَ نَفْسَهُ، بَقِيَ طَويلًا تَحْتَ الماءِ ، مَفْتوحَ العَينينِ فشاهد عجباً، صورَةِ ِجَدِّهِ مَرْسومةً على بَطْنِ حوت، حاول اللحاق به لم يتمكن.. لكن في الحال أخذ يتَذَكَّرَ !
كانَ بَيْتُ جَدِّهِ لِأَبِيهِ لا يَبْعُدُ عَنْ البَحْرِ بِمَديْنَةِ حَيفا سِوى أَمْتارٍ قَليلَةٍ، قيلَ لَهُ: " أَنَّ الجَدَّ كانَ حَنونًا ويُحبُهُ" وَكانَ الطِّفْلُ يُجَنُّ بَيْنَ يَدَيْهِ حيْنَ يَحْمِلُهُ لِلمَاءِ، يُؤَرْجِحُهُ فَوْقَ الأَمْواجِ وَلا يَجْزَعُ، قَدْ حَلَفَ الجَدُّ، أَنَّ هَذا العِفْريتَ يُحاوِلُ أَنْ يَتَمَلَّصَ مِنْ بَينَ يَدَيْهِ لِيَرْكَبَ واحِدَةً مِنَ الأَمْواجِ، وَحينَما كانَ يُخْرِجُهُ مِنَ الماءِ، يَشُدُّ لِحْيَتَهُ، يَتَفَلَّتُ مِنْهُ، وَيُعيدُ الكَرَّةَ بَعْدَ الكَرَّةِ، وَكانَ الجَدُّ حَليْمًا .
تَساءَلَ عِصْمَت حينَما أَخْرَجَ رَأسَهُ لِيَتَنَفَسَ، لِماذا كَبُرَ وَما زالَ يُحِبُّ رُكُوْبَ المَوْجِ وَالمُكُوْثَ بِهُدوءٍ تَحْتَ الماءِ؟
ذَاتَ لَيلَةٍ، وَكانَ لَهُ مِنَ العُمْرِ أَرْبَعَ سَنواتٍ، كانَ صُراخُ الأَطْفالِ يَعْلو وَيَطْغى عَلَى صَوْتِ الرَّصاصِ وَالمَدافِعِ، هُناكَ، في تِلْكَ الليْلَةِ، ازْدَحَمَ رَصِيفُ الميناءِ بِأوْلَئِكَ المَنْسيينَ في وَطَنٍ كانَتْ أَجْنِةُ نِسائِهِ تُرْفَعُ فَوْقَ حِرابِ البَنادِقِ، مَنْ كانَ يُصَدِقُ، أَنَّ الفِعْلَ المُجْرِمَ َكانَ يُمارِسُهُ الأَوْغادُ بِكُلَّ سَعادَةٍ؟
هُناكَ، امْتَلأَ رَصْيفُ الضَّياعِ بِصُراخِ الأَطْفالِ، وبعض النِّسْوةِ ضَيَّعْنَ فَلِذاتَ الأكبادِ، وَمنْ قَد تَرَكُوا الدُّوْرَ مُشْرَعَةَ الأَبْوابِ، هُناكَ، عَلى ذَلكَ الرَّصِيفِ، ارْتَسَمَتْ حُدودُ اللاعَوْدَةِ لِوَطَنٍ يُغْتَصَبُ.
هُناكَ، كانَ قَدْ تَمَلَّصَ منْ يدِ أُمِّهِ، رَكِبَ المَوْجَ لأَوْلِ مَرَّةٍ، ضاعَ لِلَحَظاتٍ تَحْتَ السَّطْحِ، لَحَظاتٌ لمْ يَعدْ يَسْمعُ فيها تلْكَ الأَصْواتَ الحَمْقاءَ، لحَظاتٌ شَعَرَ فيها بِالأَمانِ!
لَكنَّ البَرْدَ القارِصَ وَرَغْبَتَهُ في التَّنَفْسِ كانَتْ أَقَوى منْ رَغْبَتِهِ فيْ أَنْ يَبْقى تَحْتَ المَاءِ. سَحَبَتْهُ يَدٌ خَلاّقّةٌ وَقالُوا: قَدْ كُتِبَ لَهُ عُمرٌ جديدٌ!
في تلكَ الليْلَةِ، كانَ مَرْعوبًا منْ صَوْتِ المَدْفَعِ، يَنْظُرُ نَحْوَ سَوادِ الماءِ، في العَميقِ كانَ قَدْ شَعَرَ بالسَّكينَةِ وَالأمانِ.
في تلْكَ الليْلةِ، عَرَفَ حينما نظر نحو السماء أن النَّجومَ تَتَراقَصُ، وأَنَّ أَيَّ إنْسانٍ بِاسْتِطاعَتِهِ أَنْ يَحْلُمَ وَهوَ مَفْتوحُ العَينينِ! وأَنْ يُمَنّيَ النَّفْسَ بالأُمْنياتِ حتى وَهوَ يَغْرَقُ تَحْتَ الماءِ!
هُناكَ، حَمَلَتْهُ أَيادٍ كانتْ تَصْرخُ لِيخْرُجَ مِنْ فَمِهِ الماءَ والمَرْكِبَ التَّائِهَ، كانَ يَتَمايَلُ وَهوَ يَمْخُرُ عَبابَ البَحْرِ بِبُطءٍ فَوْقَ الأَمْواجِ، كُلَّما ابْتَعَدُوا عَنْ حيفا كانَ صُراخُ الأَطْفالِ يَهْدَأُ، وَيَزْدادُ عِنْدَ الكِبارِ الأَنينَ.
وبرغم مرور عشرات السنين كان كلما شعر بضيق ، يركب الموج ، ويغوص نحو الأعماق ليشعر بالسلام قليلا.
بعدما خرج من البحر، عاد من حيث أتى ، واتخذ بعد تفكير عميق قرارا ربما بداَ للآخرين غريباً ؛ لقد قرر أن يعزل نفسه عن الناس، ويجعل من مسكنه الجديد محبسا ليخلو إلى ذاته، ويتعرف على نفسه أكثر مما كان يعرفها من قبل.

هنا، سيروي عصمت لي أهم محطات حياته في عناوين، ويُبْقي على التفاصيل عند الضرورة ليتعرف القارئ على هذه الشخصية البسيطة التي صقلتها
التجارب و اختزنت ذاكرته سبعين
عاما من الأحداث ويزيد.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رأفت العزي
Admin
رأفت العزي


عدد المساهمات : 75
تاريخ التسجيل : 31/10/2013

واقع يلفه الحلم  Empty
مُساهمةموضوع: رد: واقع يلفه الحلم    واقع يلفه الحلم  Emptyالإثنين فبراير 27, 2023 10:34 pm

-11-
الفصل الثاني

(قدر)
منذ طفولته كان عصمت كثير الكلام، وكانت والدته تقفل اذنيها أحيانا وتصرخ ليسكت، يمتثل أحيانا، يلاطفها ويجلس بجوارها ليعود إلى الحديث معها مرة بعد مرّة فتضحك وتكرر قولها : " الله يرحمِك يا "شفيقة" سَحِبّتك من لسانك يما" وفي صباه كان محط تهكم أقرانه : " حضر المتفلسف، وخُذّ عِندَكْ على رغي حكي ! " ولكنهم مع ذلك، كانوا يسألونه عن أشياء كثيرة حتى أنه في سن المراهقة كان كاتبا لرسائلهم الغرامية. ويعجبون أحيانا :
"كيف تعرف كل ما تعرف ! "
ولكني أنا الراوي أعرفه تماما وأقول انه اكتسب تلك الميزة من مشارب مختلفة صنعت منه ما كان عليه.
كان وعي الطفل فيه باكرا منذ سنواته الأولى على مشاهدات عنف وقتال ومآسٍ ستُروى. ثم وجد نفسه تميل - منذ طفولته- إلى القراءة، فكان يلتقط أي ورقة تطالها يده، يتصفحها بتمتع ولا يلقيها أبدا "فتلك سيئة يحاسبنا عليها الله " فيها اسم محمد والأنبياء موسى عيسى سليمان وهكذا.
وكان للوسط الاجتماعي الذي نشأ فيه فضلا في بناء شخصيته شيئا فشيئا حيث قضى طفولته في عدة أمكنة وبيئات مختلفة بسبب انتقال أهله من منطقة إلى أخر حسب الضرورة او الاضطرار : حارة صيدا ومعظم سكانها هم على المذهب الجعفري ، فتعرف هناك على السيرة الحسينية وكان يرى جميع نساء الحي في مناسبة عاشوراء يذهبن إلى حسينية البلدة للإستماع إلى السيرة ثم يعدنّ و على وجوههنّ آثار الحزن والدموع.. وحينما سأل والدته بإلحاح مرة قالت:
" أنها ذكرى استشهاد حفيد النبي" وأمام إلحاحه ، حكت له ما كانت تعرف. لكنه لم يفهم معنى جملة قالتها " من زمان زمان يما ، الظُلاّم قتلوا حفيد النبي " فأحب الذي مات "من زمان" وبقي على عادته ، يبكي كلما وجدها تبكي.

وعندما عاد ابيه بعد غياب أربع سنوات غيّر مسكنهم ليكون أقرب إلى وظيفته في قرية مسيحية " المية ومية" والتي تحتضن مخيما للاجئين الفلسطينيين فتعرّف هناك على الطقوس الكنيسة، كان يقف مع كثير من اولاد المخيم أمام شبابيك المعبد ويتعجبون من طريقة الصلاة ، وينتظرون الأبونا بعد العبادة حتى يوزع عليهم بعض حبوب الحلوى فيشعرون بفرح عظيم خصوصا، وإن الأعياد والمناسبات المسيحية كانت كثيرة : أعياد الميلاد ،الفصح ،رأس السنة، انتقال السيدة العذراء مار يوحنا، ومار مارون والبربارة ، وحتى عيد جميع القديسين .
لكن الزمن الأطول من تلك الطفولة كانت في مخيم " عين الحلوة " وهو يَعتبِر أن تلك الفترة كانت مدرسته الأهم .. في تلك البيئة تعلم أشياء كثيرة منها " فن" الهروب من المدرسة، تسلق الأشجار العالية، التسلل داخل البساتين المحيطة بالمخيم والانتقام من طيور الدجاج بعد فشل القبض عليها؛ رمي الحجارة وكيفية توجيهها نحو الأهداف مباشرة وكان يبرع في إصابة الهدف.
تحديات الأولاد، دفعته ليكون واحدا من القلائل الذين يستلقون بين خطّي سكة الحديد حين يمر القطار.. ولكنه يفعل ذلك بتمايز عن الآخرين.. كان يقف في وسط الخطين.. وحينما يقترب القطار ، يظل واقفا بثبات عجيب .. والسائق يطلق الصفارات ويشوح بيديه.. يُطلق الشتائم حتى ما أن يصبح القطار على بعد أمتار قليلة يرمي نفسه تحت العجلات فتحدث الضجيج والارتجاج دون أن يرف له جفن، ولكنه كان يُرعب كل الناظرين. حتى يأس السائق من أبناء المخيم وتوقف إطلاق صافرته إلا مرة واحدة كانت تُطّرب جميع الأولاد، وتسعدهم مع استمراره في إطلاق الشتائم صباح مساء. المخيم يحاذي سكة الحديد تماما.. ذلك الذي كان ينقل الوقود من مصفاة الزهراني حتى منطقة الدورة بيروت.
أما الأخطر فكان سؤال الأب له تحت تهديد الحزام:
" كيف تمسك الحيات بيديك يا ابن الحرام؟"
لقد كان عصمت من القلائل الذين لا يهابون القبض على الأفاعي منذ صغره ، والأخطر من كل ذلك، كان لا يخشى " الجان " بعد رؤيتهم مباشرة في بيت أبيه ؟!
حدث أن حصلت سرقة في بيت من بيوت المخيم القريبة الى بيت ابيه، والوسيلة المتبعة لمعرفة السارق في ذلك الزمن أن يأتوا بشخص مشهور في المدينة، باستطاعته تحضير الجان ليرشدهم على السارق كما يعتقدون . ولكن "الشيخ " يعترف انه لا يستطيع رؤيتهم ويشترط على من استدعاه، أن يحضروا له الشخص الذي يمكنه رؤية الجن (شخص مجرب) وبالصدفة ان كان احد أقارب والد عصمت قد أتى من بلد بعيد لزيارتهم في لبنان وكان له شهرة واسعة في هذا المضمار في منطقة سكنه، فانتخى و وافق على المهمة " لوجه الله" وبالفعل فقد تم تحضير "العراضة" : حضر الكثير من الرجال وكان عصمت يقف بعيدا مع الأولاد يتمتم بكل الآيات التي كان يحفظها وهو يشاهد الرجال الذين جلسوا على الحصر المفروشة، شفاههم لا تتوقف عن ذكر الله.. وعندما جلس الشيخ مقابل " مخاوي الجن" المتربع على الأرض طلب صحن صيني أبيض اللون"شرط" وأن يوضع في وسطه قليلا من زيت الزيتون "شرط" أيضا ثم وضعه في حضنه وغطي نفسه كليا بغطاء سميك واختفى.. قام بعدها الشيخ بالتمتمة بكلمات غير مفهومة وأخذ يضرب بكفه على الأرض مرة وعلى أحد المساند مرة، وبعد كل ضربة كان يسأل بصوت عالٍ : " ظهروا؟" فيجيب أبو علاء بالنفي.. وهكذا وبعد عشرة دقائق من الترقب والرعب الذي كان يحيط بالمكان صرخ خَوُيّ الجنّ بأعلى صوته : " ظهروا!"

فما كان إلا أن نصف الرجال تسللوا وفروا من الغرفة إلى خارجها، وفرّ عصمت والأولاد بعيدا بين أزقة المخيم وهم يصرخون " شفنا الجن، شفنا الجن" أما النصف المتبقي وتحفظوا على أنفسهم مع التكبير على اعتبار أن الجان الذين ظهروا كانوا من المؤمنين!

الكثير من المعارف والقصص اكتسبها في المخيم ؛ وفي مدرسته لم يتعلم القراءة فقط، بل تعلم أن يقرأ . وجد نفسه يحب المطالعة و لا يعوقه اللعب،، 1.عنها وهو في سن مبكرة وانه لم ينقطع عن زيارة مكتبة المدرسة حتى بعد خروجه منها قسرا .. !
وفي المدرسة تعرف على الميول المختلفة للمعلمين ولم يكن يدرك، لماذا يختلفون وهم أبناء مخيم واحد، وأبناء قضية واحدة ! مع ذلك كان يميل لهذا المعلم او ذاك، حسب الإغراءات التي يقدمها احدهم ! فهذا المعلم يغري طلابه بقبضة من " الزبيب " الذي كانت المدرسة توزعه على الطلاب من وقت لآخر .. وذاك يعدهم بالفسح خارج المخيم ، وٱخر تغاضيه عن الأخطاء أو بتخفيف حدة الضرب عند العقاب !
وفي المدرسة أيضآ عرف ما معنى التسلل، وكيف يكون الفرار ، أما الأصعب ، فكان عدم تحمله السكوت لساعات دون ان يتكلم! ولكنه مع ذلك تعلم الصمت وكان محظوظاً جدا أن تعلم الإنصات أيضا.
بالقرب من منزلهم كان هناك " ديوان " ويعرف ما هو الديوان جيدا .. فوالده كان يتحدث عن ديوان جدّه عبدالله أبو محمود الذي اشتهر في حيفا. فهناك في مسجد الاستقلال كان " عزالدين القسّام" يؤم المصلين في جامع الاستقلال ويستريح في ديوان جده .
أما في ديوان العم ابو عليّ تعلم عصمت القصّ، والرقص والإصغاء.. عرف ما معنى " احترام "الكبير " والطاعة ؛ هناك في الديوان ،تعرف أيضا على قصص الرجولة ،عرف جمال عبد الناصر وحفظ بعض اقوله وأصغى لصوت " أحمد سعيد " من إذاعة "صوت العرب "من القاهرة… عرف ماذا تعني كلمة استعمار .. وكلمة " عروبة "أما كلمة صهيونية ، فلم يكن يسمعها .. لأن الجمهور كله كان يقول : كذا فعل اليهود .
في المخيم أيضا وأيضا تعرف عصمت على العادات والتقاليد الاجتماعية ، السيء منها والحسن. وعرف البيئات المختلفة التي جمعت ما بين سكان قرى الجليل والساحل ، والأغوار، الفلاح والبدوي والمديني .. و تعلم اللهجات المختلفة بمعظمها .
في المخيم أيضا عرف ماذا يعني كلمة " سلطة قمعٍ وعصا غليظة " وكبت الحريات، معنى التمرد كيف، ومتى يجب على المرء أن يكون ثائرا .
أما الذي كان من الصعب عليه نسيانه هو أنهم قد جعلوا من معظم الشعب الفلسطيني مجموعة متسولين.. يقفون كل اخر شهر في طوابير لاستلام حصص تموينية .. بعض حفنات من الأرز والعدس والزيت وكومة من الطحين!
في المخيم تعلم ايضا كيف يساعد ابيه على سد ثغرات السقف الدالف فوق رؤوسهم كالحنفيات، وتعلم كيف يقاوم معه قبل مقاومة العدو، الجيوش الزاحفة من الحشرات ..وتعود النوم بعد غياب الشمس لافتقار القنديل إلى نقطة زيت. وبرغم أن معظم الأوقات كانت عائلتهم والكثير من العائلات الفلسطينية تبيت بلا عشاء.. كانت الإشاعة في معظم مجتمع المخيم، أن والده كريم جدا.. والحقيقة أنه كان يُولم كلما تيسر له ليُبقي على تلك السمعة الموروثة عن أبيه.
وعصمت لا يُنكر أن والده برغم قساوته قد علمه ماذا تعني البطولة، الكرم، النجدة، الشهامة، النخوة، التضحية وتقاسم الرغيف .
ومن والدته تعلم أهم ما في الحياة : الحب والعطاء، الشجاعة والسباحة - لا تستغربوا أن امرأة حيفاوية كانت سبّاحة في ذلك الزمن.
كل بيت من بيوت المخيم، كان أهله، يعرف ماذا تعني كلمة " مقاومة" ولكن.. في بيت أبيه ، كان الأمر مختلفا، كان يعج بالأسرار ، و ويضيق بالمناضلين، فعرف ماذا تعني كلمة " فدائيين"وماذا يعني كلمتي وشاة وجواسيس !
وفي المخيم أيضا كان لا يعرف أن الذي يجلس إلى جانبه عند طرف خيمة الديوان يستمع للمواعظ والقصص كان اسمه ناجي العلي.
كل ذلك قد أسس شخصية شجاعة، وبفضل ممارسته للرياضة باكرا، تمتع ببنية قوية لا تعرف التردد، وتمتع أيضا بمواهب عدّة منها ميزة " القيادة" والصوت الجميل والتواضع والعاطفة الجياشة والوفاء .
كان عصمت يعرف نفسه جيدا.. ولكن.. ما الذي دهاه بعد رفض أبيه رغبته ، وجعله كالريشة في مهب الريح؟ هل الحب يحيد بالإنسان عن شخصيته؟ نعم ،إن الحب قد أضعفه وعانى ، وحينما خرج من البحر، قرر أن يرمم الجدار الذي انهار داخله، قرر أن يخلو إلى نفسه وها قد مضى على وجوده "هناك" أياما طويلة ، لا يخرج من غرفته إلا للضرورة فماذا كان يفعل في كل ذلك الوقت؟!

بعد رحل عن المكان، بقي سكان الحي يدخلون الغرفة ويبقون لوقت طويل يقرأون ماذا كتب بقلم الرصاص على سطح الجدران وماذا رسم؟.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رأفت العزي
Admin
رأفت العزي


عدد المساهمات : 75
تاريخ التسجيل : 31/10/2013

واقع يلفه الحلم  Empty
مُساهمةموضوع: رد: واقع يلفه الحلم    واقع يلفه الحلم  Emptyالإثنين فبراير 27, 2023 10:35 pm

-12- و13-
الفصل الثالث

((مسار مختلف))

كَانَت السَّاعَة تَقْتَرِبْ مِنَ الثَّانِيَةِ بَعْدَ مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ عِنْدَمَا اِسْتَفاق عَلَى قَرَعَ الْبَابَ بِقُوَّة. نَهَض بِسُرْعَة يُسَاوِرُه القَلَق. فَتْح دُونَ تَرَدُّدٍ ففُوجِئ بِأَخِيه الْأَكْبَر يَقِف وَالْحَيْرَة بَادِيَة عَلَيْه، وَالِارْتِبَاك قَدْ جَعَلَ كَلِمَاتِه غَيْرُ وَاضِحَةٍ.
مَن مَاتَ؟!
سَأَله عَصَمْت ولم يلق جواب فكَرَّر نَفْس السُّؤَال بِغَضَب بَعْدَمَا اِسْتَنْفَدَ أخوه أَعْصَابَه وَهُو يُحَوْقل وَيُكَبِّر وَيَطْلُبُ مِنْهُ أَنَّ يَكُونَ صَبُورًا، رَجَاه بِشِدَّة، ثُمَّ سَأَلَهُ مِنْ جَدِيدٍ: "أَرْجُوك، هَلْ مَاتَ أَبِي. أُمِّي، أَحَد إخْوَتِي... مِنْ الَّذِي مَاتَ؟ قلّ"!
أَخِيرًا قَالَهَا بِشَكْل مَأْساوِي:
- "خَالِك هُوَ الَّذِي مَاتَ!"
تسمرّ عَصَمْت فِي مَكَانِهِ جفّ حَلْقِه، وَرَدَّ بِكَلِمَةٍ وَاحِد:
اِرْتَاح! هَلْ عَلِمْت وَالِدَتِي؟
- سَوْف نَعْلَمُهَا فِي الصَّبَاحِ هَل تَأْتِي الْآن مَعِي؟! "
فَقَال عَصَمْت" لَا ".
لَمْ يَكُنْ خَبَر وَفَاةِ خَاله مفاجئ لَهُ بَلْ كَانَ يَتَمَنَّى لَه الْمَوْت مُنْذُ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ للحادثة الَّتِي أَدَّت لاحتراقه! فَالنَّار لَمْ تَتْرُكْ رُقْعَة مِنْ جَسَدِهِ إلَّا وطالتها... سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ العذابات وَالْعَزْل التَّامِّ فِي المشفى كَانَتْ طَوِيلَةً عَلَى الَّذِينَ يَنْتَظِرُون مَوْتِه، وَغَيْر كَافِيَةٌ كَمَا ظنّ عَصَمْت حِينَمَا كَانَ يَتَساءل بألم عَن وَعَد إله" العُصاة "لهم بِعَذَاب الْآخِرَة، عَذَابَ النَّارِ. وَأخذ يُفَكِّر لأَوَّلِ مَرَّةٍ بِأَنْ كَمْ هُوَ قَاسٍ هَذَا الْإِلَهُ الَّذِي سيحرق" الكافرين "مِنْ الْبَشَرِ، ليس ليوم أو سنة بل وَسيَظَلّ يحرقهم إلَى أَبَدَ الْآبِدِينَ.
بكى خاله بحرقة ونظر نحو السماء بنجومها اللامعة وتساءل: ألم يقولون إنَّ الله قَدْ كَتَبَ للبشر كُلُّ شَيْءٍ!
بَقِي عَصَمْت شَارِد الذِّهْنِ مَا تَبَقَّى مِنْ اللَّيْلِ، تَحْمِل عَيْنَيْه دَمْعُه مَسْجُونَة فَتَفِرّ كُلَّمَا مَرَّتْ ذِكْرَى الْمَاضِي فِي فَكَرِه... كَان مُحِبًّا لخاله الحنون، حزينا عَلَى مَا آلَت إلَيْه أَحْوَالِه، وَمَا صَارَ إلَيْهِ. لَقَدْ كَانَ مِنْ أَمْهَر الْعَامِلِينَ فِي" مِيكانِيكا "القطارات فِي ورش سكك حديد حَيْفًا. دُرب عَلَى أَيْدِي أَحَد أمهرالْمُهَنْدِسِين الأجانب مِنْ سُكَّانِ فلسطين، حَتَّى أَصْبَحَ بِمَثَابَة مُهَنْدِس دُونَ شَهَادَةِ، ودمغَتُه كَانَتْ عَلَى القِطَار يَعْنِي، أَنَّهُ صَالِحٌ لِلْخِدْمَة. الضَّوْضَاء زَادَت مِنْ مَرَض أُذُنَيْهِ حَتَّى بَات سَمِعَه ثَقِيلًا، وَفِي أَحَدِ الْأَيَّام، كان مستلقي لَمْ يَسْمَعْ مَا كَانَ أَحَدُ الْمُهَنْدِسِين الإنجليز يُمْلِي عليه فَكَادَ لَهُ أَحَدُ الْعُمَّال المنافسين أَثْنَاء جدلٍ حَوْل مَسْأَلَة عَمَلِيَّة، وفسّر خطأً مَا قِيلَ لَهُ عَلَى لِسَانِ الْإِنْكِلِيزِيّ وَبِأَنَّه قد وجه له شتائم مختلفة... فَمَا مِنْ كَانَ خَالِه إلَّا أَنْ ضَرْبَ "الضابط بِقِطْعَة حَدِيدِيَّة أَدْخَلَتْه المشفى فَسَجْنٌ وَطَرَد مِنْ عَمَلِهِ دُون تَعْوِيض وَخَسِر كُلِّ شَيْءٍ. لَم يَسْتَسْلِم لأمر فاسْتَغَلّ مهارته فِي الميكانيكا حَيْث اسْتَقَرّ عامل لِحِسَابِه كَأَحْسَن عَامِل صِيَانَة ل الدراجات النَّارِيَّة. وَبَقِيَ عَلَى تِلْكَ الْمِهْنَة بَعْدُ حَتَّى بَعْدَ النَّكْبَةِ حَيْث حَطّ بِه التَّرْحَال وَصَار مَقْصِدًا فِي مِهْنَته حَتَّى يَؤُمَّ اِحْتِرَاقُه عِنْدَمَا أَشْعَل أَحَدُهُم النَّارِ فِي جالُون وَقُودٍ سَريع الاشْتِعَالِ حَاوَل إطفاءه لكنه فشل في ذلك و ثي رَمَاه دُونَ قَصْدِ بِاتّجاه خَاله فَاحْتَرَق!!
بَقِي عَصَمْت شَارِدٌ الذِّهْنِ إلَى مَا بَعْدَ الْفَجْرِ يُفَكِّر بِأُمِّه وَمَن سَوْف يُخْبِرْهَا بِمَوْتِ أَخِيهَا، وَكَيْف ستتلقى جَدَّتِه الْخَبَرُ وَهِيَ الَّتِي شَاهَدْت وَلَدِهَا يَحْتَرِق إمَام عَيْنَيْهَا!
ظِلّ يُفَكِّر حَتَّى أَخَذَهُ النَّوْم
وَحَلَمَ حلماً غَرِيباً.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رأفت العزي
Admin
رأفت العزي


عدد المساهمات : 75
تاريخ التسجيل : 31/10/2013

واقع يلفه الحلم  Empty
مُساهمةموضوع: رد: واقع يلفه الحلم    واقع يلفه الحلم  Emptyالإثنين فبراير 27, 2023 10:35 pm

-13-

" حُلْمٌ أَوْ وَهْمٍ ؟ "

رَأَى نَفْسَهُ فِي اَلْحُلْمِ طِفْلاً كَانَ يُلِحُّ عَلَى وَالِدَتِهِ يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ، اِسْتَمْهَلَتْهُ فبكى ، رَجَاهَا مِنْ أَجْل . . . تَأَلَّمَتْ لِحَالِهِ ، وَخَرَجَتْ بِهِ إِلَى بَيْت قَرِيبَةٍ تَسْكُنُ عَلَى بُعْدِ شَارِع فِي نَفْسِ اَلْحَيِّ وَسَطَ اَلْمَدِينَةِ . بَيَاضُ اَلثَّلْجِ يَكْسُو اَلْمَنَازِلَ وَالطُّرُقَاتِ وَيَعْكِسُ ضَوْءُ اَلْقَمَرِ أَنْوَارَهُ واَلطِّفْلَ مُمْسِكًا بِطَرَفِ رِدَاءِ أُمِّهِ ويُهَرْوِلَ لِيَتْبَعَ خَطَّاهَا اَلسَّرِيعَةُ. يَرْتَجِفَ ، يَنْظُرَ نَحْوَ هَيَاكِلِ اَلْأَشْجَارِ اَلْمُبَيِّضَةِ فُرُوعَهَا، وَتِلْكَ اَلْمَقَاعِدُ اَلْمُنْجِدَةُ بِقُطْنٍ أَبْيَضٍ ، وَبَعْضَ اَلسَّيَّارَات اَلْقَلِيلَةِ إِلَى جَانِبِ اَلطُّرُقَاتِ وكَانَتْ تَبْدُو لَهُ كَاللَّعِبِ . يَضَعُ يَدَهُ أَمَامَ فَمِهِ لِيَلْتَقِطَ بُخَارَ لُهَاثِهِ اَلرَّمَادِيِّ، أَوْ يَلْهُو بِدَوْسِ أَقْدَامه وَيَسْأَلُ عَنْ سَبَبِ غَوْصِ أَقْدَامِ أُمِّهِ أَكْثَرَ عُمْقًا مِنْ غَوْصِ قدميه وَلَمْ يُدْرِكْ، أَنَّ وَزْنَهَا قَدْ زَادَ بِحَمْلِهَا أُخْته مُضَافًا لِوَزْنِهَا المتوسط. فَلَا أَقْدَام فِي اَلطُّرُقَاتِ غَيْرِ أَقْدَامِهِمَا وَعَجَلَاتِ سَيَّارَةٍ ضَخْمَةٍ ، رَسَمَتْ خَطَّيْنِ لَا يَلْتَقِيَانِ على المدى .
تُهَلِّلَ وَجْهَهُ عِنْدَما رَحَّبَتْ أُمُّ يَاسِينْ بِقَرِيبَتِهَا ، وَضَحِكَتْ فَاطِمَة لِرُؤْيَة مَنْ هُو فِي مِثْلٍ سِنَّهَا، لَكِنَّه كان جَائِعٌ . وَوَالِدَتُهُ أَطَالَتْ، وَمَاطَلَتْ، وَلَمْ تَطْلُبْ لَهُ أَيُّ طَعَامٍ ، بِرَغْمَ أَنَّهَا وَافَقَتْ عَلَى اَلنَّوْمِ هُنَاكَ وَالْتَصَقَ بَعْدَ اَللَّعِبِ إِلَى جَانِبِهَا وأَخْذ يَتَلَوَّى وَيَنِقُّ.
عَرَضَتْ أُمُّ يَاسِينْ عَلَيْهِ اَلْأَكْلُ فَنَفَى أَنْ يَكُونَ جَوْعَاناً ؛ لَمْ تَأْتِهِ إِشَارَةُ أُمِّهِ. عَادَتْ تَسْأَلُهُ بِلُطْفِ : هَلْ تَشْعُرُ بِالْجُوعِ ؟ سَكَتَ وَتَرَدَّدَ قَلِيلاً ثُمَّ قَالَ " لَا" - وَمَا اَلَّذِي يُبْكِيكَ يا عمري ؟ لَمْ يَنْطِقْهَا أَبَدًا . . . !
كَانَ يَنْظُرُ فِي عَيْنِي وَالِدَتَهُ كَأَنَّهُ يَرْجُوهَا بِأَنْ تُعْفِيَهُ مِنْ قَوْلِ تِلْكَ اَلْجُمْلَةِ اَلْقَصِيرَةِ اَلَّتِي عَلَّمَتْهُ إِيَّاهَا : "عِنْدَمَا يَسْأَلُونَكَ تَقُولُ:" إِنِّي أَكَلَتْ قَبْلَ قَلِيلِ "!
إِشَارَاتٍ وَجَّهَهَا لَمْ تُعْطِهِ اَلْإِذْنَ لِيَقُولَ نَعِمَ . فَصَارَ يُرَدِّدُ تِلْكَ اَلْجُمْلَةِ " إِنِّي أَكَلَتْ قَبْلَ قَلِيلِ " عِدَّةِ مَرَّاتٍ . ! سَأَلَتْهُ فَاطِمَة : - هَلْ أَنْتَ خَائِفٌ مِنْ شَيْءٍ ؟ : - " نَعِمَ ، مِنْ قِطَّتكُمْ ؛ كُنْتَ أَنْظُرُ إِلَى طَبَقِ اَلْقَشِّ اَلْمُعَلِّقُ فِي اَلسَّقْفِ هُنَاكَ ، فَرَأَيتْ اَلْقِطَّةُ تَقِفُ فِي زَاوِيَةِ اَلْغُرْفَةِ، تَنْظُرُ هِيَ اَلْأُخْرَى نَحْوهُ ، كَانَتْ تَتَهَيَّأُ لِتَقْفِزَ وَتَطَالهُ ، لَكِنَّهَا لَمْ تَفْعَلْ فَسَبَقَتْهَا إِلَيْهِ . . . ! وَإِذْ بِي أرْمِي- وَدُونَ قَصْدِ مني - صُحُونِ اَلْأَكْلِ اَلْمَوْضُوعَةِ عَلَيْهِ . . . جَرَتْ اَلْقِطَّةُ إِلَى تَتَنَاوَلُ مَا وَقَعَ مِنْ طَعَامٍ بِشَرَاهَةٍ ، وَكَانَتْ تُصْدِرُ أَصْوَاتًا مُخِيفَةً ،قَفَزَتْ نَحْوَ حِضْنِ أُمِّيٍّ . . . لَكِنَّ شَيْءً عَادَ يَشُدُّنِي نَحْوَ اَلْأَعْلَى ، حَاوَلَتْ إِغْمَاضَ عَيْنِي لَكِنَّهُمَا بَقِيَتَا مَفْتُوحَيْنِ مُعَلَّقَتَيْنِ بِطَبَقِ اَلْقَشِّ إِيَّاهُ ، سُمِعَتْ هَمْهَمَات غَرِيبَة فَتَذَكَّرَتْ مَا كَانَ يُقَالُ لِي : إِنَّ هَذَا اَلصَّوْتِ هُوَ صَوْتُ أُمِّ قَرِينَةٍ" فشَعَرَتْ بِالرُّعْبِ. حاولت اَلتَّشَبُّثِ بِثِيَابٍ أُمِّيٍّ لَكِنَّ أُمَّ قَرِينه سَحَبَتْنِي مِنْ مَكَانِي ، وَوَضَعَتْنِي فَوْقَ ذَلِكَ اَلطَّبَقِ ، ثم بَدَأَتْ تَغَزُّل بِالْحَبْلِ اَلْمُعَلَّقَةِ بِالسَّقْفِ فصار الطَّبَقِ يَدُورُ عَلَى مِحْوَرِهِ وَيَدُورُ ، وَعِنْدَمَا وَصَلَتْ سُرْعَة دَوَرَانِهِ أَقْصَاهَا، دَفَعَتْ بِهِ نَحْوُ إِحْدَى اَلزَّوَايَا بقوة ، فَصَارَ اَلطَّبَقُ يَدُورُ فِي أَرْجَاءِ اَلْغُرْفَةِ كلِها ، يَدُورَ ، وَيَدُورَ . . . وَيَدُورَ وَأَنَا أَصْرُخُ . . . أُنَادِي أُمِّي ، أَسْتَغِيثُ ، لَكِنَّهَا لَمْ تَسْمَعْنِي ، وَحَتَّى أَنَا لَمْ أَعُدْ أَسْمَعُ صَوْتُ صُرَاخِي ، أَنْفَاسِي كانت تَتَقَطَّعُ ،وشعرت بِالْهَلَعِ ، أفتح عيني وأغمضهما وَالطَّبَقُ لَا يَتَوَقَّفُ عَنْ اَلدَّوَرَانِ . . يَدُورَ ، وَيَدُورَ ! حَاوَلَتْ اَلتَّعَلُّقَ بِيَدِ عَمِّي اَلْمَمْدُودَةَ إِلَى فَاسْتَغْرَبَتْ ! كَانُوا يَقُولُونَ أَنَّ اَلطَّلْقَةَ اِخْتَرَقَتْ جَبْهَتُهُ وَاسْتُشْهِدَ ، لكن عجبا ، كَانَ يُجَاهِدُ لِإِنْقَاذِي . حَاوَلَتْ اَلْقَبْضَ عَلَى اَلْيَدِ اَلْمَمْدُودَةِ مِرَارًا لَمْ أَفْلَح . . . وَالطَّبَقُ يَدُورُ وَيَدُورُ . . . حَتَّى اِنْقَطَعَ وسَقَطَتْ عَلَى اَلْأَرْضِ وَأَنَا مُنْهَكٌ.. وجدتني بِالْقُرْبِ مِنْ فَاطِمَة ؛ يَا لِلْعَجَبِ، أَخَذَتْ هِيَ اَلْأُخْرَى تَبْكِي وَقَالَتْ :- كُنْتُ هُنَاكَ !
مَعَ مِنْ كُنْتَ أتَّحَدْتُ إذن ؟ وَجَدَتْ يَدُ أُمِّي تُربِّتُ عَلَى ظَهْرِي ف لُذْتُ بِصَدْرِهَا : أُرِيدُ أَنْ أشْرَبْ ! "
تَوَقُّفُ ذَلِكَ اَلْحُلْمِ ، عِنْدَمَا سَمِعَ طُرُقًا عَنِيفًا عَلَى اَلْبَابِ فظَنَّ بَعْدَ اَلنَّظَرِ إِلَى سَاعَتِهِ وقد تَجَاوَزَتْ اَلسَّاعَةُ اَلتَّاسِعَةُ صَبَاحًا أَنَّ أَحَدَ أَفْرَادِ عَائِلَتِهِ جَاءَ لِيَصْحَبِهُ إِلَى بَيْتِ خَالِهِ اَلْمُتَوَفِّي . . . لَكِنَّ اَلْمُفَاجَأَةَ أَنَّ يَدَ اَلطَّارِقِ كَانَتْ يَدُ تِلْكَ اَلْأُنْثَى...
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رأفت العزي
Admin
رأفت العزي


عدد المساهمات : 75
تاريخ التسجيل : 31/10/2013

واقع يلفه الحلم  Empty
مُساهمةموضوع: رد: واقع يلفه الحلم    واقع يلفه الحلم  Emptyالإثنين فبراير 27, 2023 10:36 pm

-14-
من الفصل الثالث

(( يحيا الراديو ))
عندما فتح الباب كان يتثاءب، لكنه أقفل فاه وعاد يفتحه من صدمة المفاجئة؛ ارتبك ووقع في حيرة عندما وجدها واقفة أمامه هكذا، وتساءل: ما الذي جعلها بهذه الجرأة لتطرق بابه في وسط النهار وأمام الملأ؟!
قالت كلمتين، رددتهما مرتين ثلاثة مرات وأدارت ظهرها ومشت. نظر نحو ما اتجهت وتوقفت عند ذلك الجمع المحتشد هناك، أمام منزل ذويها ومعظم الجيران كانوا ينصتون، رؤوسهم تقترب من طاولة خشبية وضع عليها راديو ضخم يستمعون باهتمام إلى شيء يقال!
"لماذا أتوا ب الراديو من غرفة أحدهم حتى صار في أعين الجميع هكذا... ما هي القصة؟!" سأل نفسه.
كان مظهرا لم يعتاد رؤيته من قبل، وقد مَرّ على وجوده هناك عدة أشهر!
اجتاحته أسئلة كثيرة، لكنه في تلك اللحظة... كان سعيدا بأنها الوحيد من بين تلك الجموع كانت تنظر نحوه وهي تبتسم وتشير له بيدها لينضم إليهم فوقف مشدوها وإشارة استفهام بلهاء من يده جعلتها تتجاهله. عاد فتذكر الكلمتين اللتين قالتهما له عندما فتح الباب:
"افتح الراديو"!
ارتبك قليلا، دخل غرفته وفتح الراديو على إذاعة "صوت العرب" المحطة التي كانت بالنسبة لمعظم العرب صوتها المسموع، أنصتَ جيدا فلم يسمع سوى موسيقى عسكرية، انتقل إلى موجة ثانية وثالثة وفي مختلف الإذاعات المعروفة مثل إذاعة لندن وبيروت فوجد كل شيء عادي باستثناء إذاعة دمشق، والتي كانت تبث الموسيقى العسكرية أيضا. شعر بفرح مشوب بالقلق؛ كان يسمع عن… ويعرف الانقلابات العسكرية التي قام بها الجيش هناك حصرا؛ وإن سعادته كانت نابعة من تلك القناعات التي رسختها ثقافة حركة القوميين العرب في عقول أعضائها وأصبحت احدى أمنياتهم أن ينجح عبد الناصر في إحداث انقلاب عسكري ضد النظام "البعثي" في سوريا على غرار ما فعل في العراق، حينما انقلب على الانقلابيين وحكم بواسطة الأخوين عبد السلام ثم عبد الرحمن عارف والذي تخلص منه صدام حسين اخيرا؟!

كان عصمت ينتمي إلى حركة "القوميين العرب" مثل غيره من العروبيين المحبين لناصر حتى العظام، ولم يكن لينسَى أي كلمة أو جملة من خطبه النارية، خصوصا ما تعلق بالإقليم الشمالي وحكامه "الخونة العملاء والجواسيس" وكان معبأً ينتظر الحدث الذي كان ناصر يتحدث عنه بغضب ومرارة وسخرية طوال سنوات ما بعد الانفصال العام عن دولة الوحدة عام 1961 فجزم حينما سمع المارشات العسكرية من القاهرة ودمشق، أن انقلابا عسكريا قد أطاح بحكم البعث! أخيرا قد فعلها البطل بعد أن حقق "النصر" في اليمن، وها هو يطيح ب البعثيين "اليساريين المغامرين" في سوريا!!
وبسرعة حلق ذقنه وهندم ثيابه وانضم إلى تلك الطاولة فاستقبلوه بترحاب وابتسامات فقال خيرا؟!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رأفت العزي
Admin
رأفت العزي


عدد المساهمات : 75
تاريخ التسجيل : 31/10/2013

واقع يلفه الحلم  Empty
مُساهمةموضوع: رد: واقع يلفه الحلم    واقع يلفه الحلم  Emptyالإثنين فبراير 27, 2023 10:36 pm

-15-

تابع الفصل الثالث

((نصر حلو، بالمقلوب ))

في الأشهر القليلة الماضية، استطاعت "حسناء" فكّ شيفرة مفتاح سجنه الذاتي الذي كان يمتد لأيام، واستطاعت أن تتعرف على أسراره وخفاياه ... والجميع هناك صاروا يعرفون من هو، ولماذا ترك منزل والده، ولماذا يأبى العودة إليه...! فصار معظمهم يتحدث إليه وشعر أنهم أصبحوا عائلته الجديدة .
في ذلك اليوم، وبعد تلك الليلة التي حلم فيها حلمه الغريب، وقبل أن تفاجئه بالوقوف أمام بابه، كان قد قرر أن يصحو باكرا للذهاب إلى بيت أبيه لمواساة أمه وتعزيتها في موت أخيها، لكن الجميلة حسناء، دعته ليستمع إلى الراديو باهتمام . وكان مستغرِبا أن لا يأتي أحد من إخوته يستعجله للمشاركة في دفن خالهم المحبوب؟!
في صباح ذلك اليوم التاريخي وعلى غير ما كان يتوقع، كان جميع الناس، بل كل العرب من المحيط إلى الخليج، قد تركوا أعمالهم ورموا ما في أيديهم ... وتسمروا أمام أجهزة الراديو والتلفزة وكان هو واحدا من تلك الملايين حينما قفز صارخا :
"الله أكبر. قد بدأ التحرير!!"
حينما توقف عزف الموسيقى العسكرية،
لعلع صوت المذيع بنبرة حماسية :-
"إليكم ما صرح به الناطق العسكري قبل قليل: " بعد أن قام العدو بمهاجمة بعض مواقع قواتنا البرية وبعض المطارات الحربية والمدنية فتصدّت دفاعاتنا الأرضية لطائرات العدو وأسقطنا 23 طائرة وأن قواتنا تشتبك مع قواته على خط النار وهي تتقدم وتتجاوز خط الهدنة"

على إثرها صار عصمت لا يعرف ماذا يفعل... آه، لقد تذكر أن يذهب إلى مركز التنظيم الذي يجتمع فيه مع جماعته من القوميين العرب... لا بد وأن يكون قد بدأ التطوع... إذ من العار أن يبدأ تحرير فلسطين وشباب مثله يجلسون بين هكذا دون فعل وحتى لو كانت حبيبته تقف مزهوة به وبما صار يعمل!
هو الذي انتظر هذا اليوم، عشرون عاما،
يوماً كان ينتظره، ويعيش (واقعا يلفه الحلم)* بالعودة إلى أرض الأجداد، وها... قد صار الحلم حقيقة!!
"الله أكبر، الله أكبر أنه التحرير لفلسطين.
يصرخ أحد الجيران من داخل منزل قريب ردَّ عليه جار آخر وبصوت متقطع "إن شاء الله يا ربي إن شاء الله يا ربى، رددها ذلك الصوت مرتين ثلاث مرات...
"أين أبو إسحاق وأخوه" يقصد أبو إزاك
سأل احدهم
* *
لقد كان العرب في ذلك اليوم الخامس من حزيران 1967 يقومون بتحرير فلسطين من اليهود "الذين باءوا بغضب من الله" وعبد الناصر وكل العرب
وإذاعات العرب كانت تعلن التحرير والتدمير وإسقاط الطائرات الصهيونية بالعشرات !
أخذه الحماس في تلك الساعة فقام بتناول حجر كلسي وأخذ يرسم خارطة فلسطين على المصطبة ووضع الأسهم التي تشير إلى هجوم وحركة الجيش المصري واجتيازه لخط الهدنة وهو في تلك الساعة يتجه لتحرير مدينة بئر السبع... "
ولشدة حماس عصمت قال هي ساعة زمن ،ساعة واحدة فقط هي المسافة من حدود غزة إلى تل أبيب ،وأقل من ساعة أقل من ساعة إذا انطلق الجيش العربي المصري من أطراف ألقطاع -الذي حكمه لأكثر من عشرين عام - حتى حدود الضفة الغربية .بعدها ،سوف يتم شطر كيان العدو إلى قسمين وعندئذٍ تقوم باقي الجيوش العربية وبقيادة محمد عبد المنعم رياض "رئيس هيئة العمليات بالقوات المسلحة المصرية والذي كان قد عين "سراً "عام 1964 رئيسًا لأركان القيادة العربية ألموحدة لتلك ألجيوش ، حيث يمكنها وبكل سهولة تحرير الشريط الساحلي الذي لا يتجاوز عرضه أكثر من 14 كيلومتر.
كان يرسم بالحجر الكلسي تلك المساحة بكل سعادة وحماسة .
لم يطل الأمر إلا وكان الناطق العسكري الأردني يصرح أنه قد تم اخترق خط الهدنة ويقوم بتحرير القدس الغربية وان قواته قد حررت بالفعل جبل المكبر الله أكبر الله أكبر وصار يقسم بأن اليوم لن يمضي إلا وفلسطين عادت لأهلها... ومن حماسته بكى وأبكى معظم المجتمعين في ذلك المكان.

في ذلك الصباح كان الدخان الكثيف يعلوا فوق مخيمات الفلسطينيين بعدما جمعوا ما لا يلزم وأشعلوا فيها النار... والبعض منهم قد أشعل بعض الخيام تعبيرا رمزيا عن محو العار.
- ربنا يرحمك يا خالي، ليت عمرك امتد ليومين لكنا دفناك في حيفا "
قالها أمام المعزين الذين لا حديث لديهم سوى أن عبد الناصر يقوم بتحرير فلسطين فعزاء خاله في ذلك اليوم كان يوم فرح ،لم تسقط من عيون زوجته دمعة واحدة، إلا أن أبناؤه الأربعة ثلاثة أولاد وبنت، كانوا في ذلك النهار ينتحبون... ولم يمضي اليوم الثالث على وفاة والدهم ، إلا وكانت الأمة كلها من المحيط إلى الخليج : تنتحب!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رأفت العزي
Admin
رأفت العزي


عدد المساهمات : 75
تاريخ التسجيل : 31/10/2013

واقع يلفه الحلم  Empty
مُساهمةموضوع: رد: واقع يلفه الحلم    واقع يلفه الحلم  Emptyالإثنين فبراير 27, 2023 10:37 pm

-16-
من الفصل الرابع

( إن نطقت الحجارة)

في الأشهر القليلة التي قضاها عصمت هناك، انقلبت حياته رأسا على عقب، كان خلالها قد تعرف إلى حسناء وأحبها، لم يتردد حينما لاحظ بأنها كانت تبادله النظرات والابتسامات،وكان يراها في كل صباح تقوم بالذهاب إلى عملها باكرا، وقد خطط ليكون في الطريق قبل موعدها ، فهيأ نفسه وانتظرها في الطريق الذي كان يرجّح انها تسلكه عادة، أزقة المدينة العتيقة إذ لا مفر من ذلك إن كنت تسكن هناك وتريد قطع المسافة من شمال المدينة إلى جنوبها فتسلك الأزقة الجميلة والتي كان قد خططها وبناها الكنعانيون ،فهي من أقدم المدن على شرقي المتوسط. وتستغرب كيف برعوا في جعل تلك الأزقة تؤدي خدمات مختلفة للسكان أهمها أن تكون ممرات تهوية تطل على البحر من جهات ثلاثة تنقل من خلالها الهواء الرطب حيث يعبر أزقتها الضيقة والبيوت التي لا تطالها الشمس وهي أزقة مسقوفة مترابطة مع الأحياء المتعددة. وهي عادة ما تعج بالناس من مطلع الشمس حتى ما بعد منتصف الليل، والمشي فيها يقيك حر الشمس في الصيف ، أو زخات المطر في الشتاء .
تنتشر على جانبيها المحالّ على أنواعها المختلفة : حِرف خشبية، صياغة وبيع الحلي الذهبية، محالّ ألبسة وخضار، سِمانة و توابل وحبوب؛ إضافة إلى مطاعم شعبية صغير تنتشر هنا وهناك ، أشهرها دكاكين الفول والحمص والفلافل، الأشهر في كل البلد، والمميز في تلك المطاعم أنها تأتيك بخبر سخن طازج من أفران لا تبعد إلا أمتار قليلة ، والتي بدورها تقدم لك أشهى أنواع الخبز والكعك والمناقيش التي تنتشر رائحتها الزكية حتى أعالي البيوت وتختلط مع رائحة اللحم المشوي في كل زقاق من أزقتها، فأينما مشيت وكيفما تلفتّ، عينيك تشتهي و نفسك تطلب.
كل شيء يغريك من طيبات هذه المدينة والتي تشتهر أيضا بحلوياتها الشعبية مثل الشعبيات والكُلاّج والتمريه والقطايف ومحالّ العصير ومعامل صناعة البوظة.
كان الصباح مثل كل يوم في المدينة، هادئا. وأصحاب الأماكن تعلو أصواتهم بالدعاء لرزق يوم جديد، يرشون المياه أمام محلاتهم ويتسامرون مع أول الحاضرين : عمال النظافة وعمال المقاهي التي تستقبل زبائنها القلائل المدمنين على تدخين الارجيلة ، وغالبا ما تسمع أحدهم يتحدث إلى قطة بصوت عال ويعدها إن مرّ بائع السمك سوف يطعمها، حتى لو رأس سمكة كان قد فُصل عن بدنها.
وانت تمشي من هناك تمر أمام أبواب مسجدين ، وكنيسة عتيقة ولا يمر صباحها إلا ورائحة البخور تملأ أنوف المارين والساكنين في تلك الحارات.
كانت تلك الجميلة حسناء تمر في تلك الأماكن كل يوم من مكان سكنها قرب البحر والقلعة البحرية حتى البوابة "الفوقا" قرب القلعة البرّية.
معظم ساكني المدينة يفضلون المرور من تلك الأزقة حتى لو سكنوا خارجها. فتشعر أنهم الأوفياء لروحها الجميلة، وكأنها تسكن في ضمائرهم ووجدان كل فرد فيهم.
انتظرها هناك، في زقاق يخلو من الدكاكين، أوله مسقوف بأحجار رملية، بني فوق قناطر تمتد فوقها البيوت المختلفة .. فترى في الأعلى، بعض الشبابيك الخشبية المفتوحة وهي تطل على الطريق. يحجب ساكنيها من النساء أصابع خشبية متقاطعة تسمى "الخُص"، وبعضها مزين بتقاطيع هندسية من الزجاج الملون.
كانت تلك المسافة من الزقاق معتمة وحينما أطلت من بعيد عرفها من هالة النور التي أشعت وهي قادمة .
في وسط الزقاق مسافة مكشوفة، حينما عبرتها زاد النور نورا، سبقها إليه ظلها وكان يرتسم على بلاطات سوداء يتماوج فوق تلك المياه السائلة من أحد مواسير المياه الصدئة، وهو، يقف هنا، تحت تحت سقف قنطرة يحاذيها شباك حديدي كبير يُطل على حفرة واسعة، يجري العمل فيها لكشف الآثار ويمكن من خلالها رؤية بعض أطلال بيوت صيدا قبل الزلزال الذي دمرها في القرن الخامس الميلادي.
قبل مجيئها كان يقف هناك و يتبرم طول الوقت، وكأن الدقائق فيه كانت تمتد لساعات وهو يروح ويجيء ، يتلمس الجدران الرملية، يتحسس بعض الأحجار.؛ كم مرّ من الزمن وهي متراصة وثابتة في مكانها؟ كان يوغل فكره - بما عرف من تاريخ - ويسأل عن الزمان الذي ثبتت تلك راسخة في أماكنها.. كم من الأحبة ،من العشاق، قد مروا عليها ولامست اياديهم خشونتها.. سأل نفسه : هل تحتفظ الأزقة بسجلات الأحداث في حجارتها؟
كم من الرسائل ابتلعت شقوقها حينما كان المحبون يتوهون عن بصمات محبينهم.. فخطر له أن يعد الأحجار الرملية الضخمة من الأسفل حتى الأعلى ، ومن زاوية الجدار حتى الحجر السري لتلك القنطرة.. وكان يعجب، كيف تقوم فوقها الأبنية ولا تسقط. ضحك على نفسه وقال : أنت تمردت على أن تكون عاشقا بالمراسلة.. ولن تحتاج إلى وضع العلامات وحفظ خريطة المكان.. ها أنت واقف هنا بكل شجاعة الفرسان، ولن تجعل الأمر يبدو كأنه صدفة!
لن تصدق هي ذلك على أي حال "
قال في سره :
أريدها أن تعرف أنني هنا بسببها.

ها هي قادمة...! بدت لعينيه وحيدة في الطريق... تتقدم بخطوات ذات إيقاع مضبوط على دقات قلبه... لكنها تباطأت حينما رأته وعندها خرج قلبه عن ذلك الإيقاع وصار يضاعف دقاته .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رأفت العزي
Admin
رأفت العزي


عدد المساهمات : 75
تاريخ التسجيل : 31/10/2013

واقع يلفه الحلم  Empty
مُساهمةموضوع: رد: واقع يلفه الحلم    واقع يلفه الحلم  Emptyالإثنين فبراير 27, 2023 10:38 pm

-17-

(( قارئة جبران ونعيمة ))

كان يسند ظهره إلى الجدار ويقف على رجل واحدة، والأخرى مثنية للخلف، وما أن اقتربت حتى استقام ونفض الغبار عن يديه وبنطاله في حركة الهاء لنفسه بينما تقترب أكثر لكنه لم يصبر، تقدم نحوها دون تردد، ابتسم ومد يده ليصافحها لم تتأخر.
لم يدر بماذا شعر، غير أن يده تعلقت بيدها كيدِ "غريق" يصرخ للنجاة، وأحس في نفس اللحظة أن يدها التصقت بيده ولا تريد الفكاك. كان لهذا الاتصال وقع لم يشعر به من قبل... وكأن تيارا سحريا قد سرى في عروقه... أبقى يده ممسكة بيدها.
"يا الله، ما هذا التكوين!؟"
في زمانه، لم يكن سلام شخص على آخر يمر بكلمة عابرة، أو إشارةٍ من بعيد، فذلك كان معيب، يجب أن تمدّ يدك عندما تسلم، وتنظر في عينيّ نظيرك مباشرة وعلى وجهك ابتسامة ولا تتأفف حتى في عزّ الحر أو البرد.
خلال سني حياته قد سلّم عصمت على مئات الأيادي ومن مختلف الأعمار، من الطفل الرضيع، حتى الشيخ الجليل، سلّم على إناثٍ مختلفاتٍ وحسناوات أنيقات، لكنه لم ير بمثل جمال أصابع يديها، رقتها ونعومتها... تحسسها ونسي نفسه، تحسسها وعيونه تائهة مبهورة من سحر عينيها الطاغي على حواسه.
سحبت يدها بهدوء أعاد له الصواب فاختصر الحديث معها.
كان قد قرأ قولا في مثل هذه المواقف، أن يقل في الحديث خصوصا في المقابلة الأولى... فكلما كثر الحديث، كثرت الأخطاء وهو لا يريد الوقوع في أي خطأ!
جملتان قصيرتان بصوت واضح جلي قالهما بلطف شديد:
"منذ إن أصبحتُ جاركم لم أعرف اسمك"!
لقد كان يكذب هنا وهو يعرف أنها لن تصدقه، وابتسامتها،
كانت تشي بأنها تعرف أنه يكذب. ثم بادرها بقول جملته التالية: "لست متطفلا ولا وقحا، عندما كنت أطيل النظر إليك في بعض الأوقات لم أستطع منع عينيّ من تتبع خطواتك... هل أعتذر!"
كان عصمت يتحدث إليها وينظر في عينيها اللامعتين ووجهها المشع بالفرح، يمسك لسانه المعتاد على شرح الأمور فقطعت عليه حبل أفكاره، وبما يشبه التحدي كان سؤالها مفاجئ له
:
"لِم أنت واقف هنا؟ على أي حال تشرفت بمعرفتك. لكني لن أكذب عليك، أنا أعرف اسمك...!"
ولم تكتفِ بتحديه بل ذهبت إلى الإخلال بتوازنه وإرباكه:
كيف تكون عيونك معجبة بي، ولم تسل أذناك عن اسمي؟! "
ابتسم بفتور بعد أن فوجئ من سرعة بديهتها وابتعد عن المراوغة، التقط يدها، هزها قليلا وقال:
-" نعم أعرف، أني أعرف اسمك يا حسناء منذ اليوم الذي مررت فيه مع رفيقتك أمام باب غرفتي، حين عطست واحدة منكما، ربما تلك اليهودية وضحكتما بغلاظة "
لم يكمل إلا ردت عليه بسرعة وبكلمات ملامةٍ واستعراض لقدراتها وقالت:
- آه... كنت أتوقع منك أن تقطع عَلَيْنَا الطريق هناك، ولكنك لم تفعل! وها أنت تقطع الطريق عليّ هنا؟
أين تعمل؟!
باستسلام وهدوء قال:
جنوباً، قرب المدينة الصناعية. وأظن أن طريقي هو نفس طريقك، هل تمانعين لو مشينا على نفس الطريق؟"
ابتسمت بتسامح وعرفت أنه يكذب
أيضا فقالت بمكر:
"الطريق لكل الناس!"
ثم سارا على نفس الدرب لمدة عشر دقائق دون أي كلمة. كانت أفكاره تتزاحم، والأسئلة تكبر في رأسه منذ الساعة التي قرر أن يتحدث إليها:
ماذا يريد منها؟ هل هو فعلا معجب بها؟ أم هي "البديل" منصة نسيان وتسلية؟!
لكنها صبية تختلف عن كل الصبايا اللواتي عرفهن من قبل، لم يكن لها شبيه في كل المحيط الذي كانت تعيش فيه ويعرفه، بل كانت جميلة الجميلات في كل المدينة... فهي لا تشبه سوى أولئك الممثلات الجميلات: فارعة الطول، رشيقة كعارضات الأزياء، أنيقة مثل كاثرين هيبورن، بطلة هوليوود في ذلك الزمن. وجميلة مثل مريم فخر الدين.
حنطية اللون، وتحمل عينين سوداوين جذابتين ساحرتين متلألئة كالنجوم، جبهتها ملكية... شعرها أسود اللون، ناعم مجدول خلف رقبتها الطويلة الرائعة كما تماثيل الإغريق، وجهها مشرق، وفوق ذلك تتمتع بشخصية قوية معتدّة وواثقة.
قارئة لجبران خليل وميخائيل نعيمة وتحفظ الكثير من أشعار الزجل اللبناني وتعشق فيروز وترانيم قدّاس الأحد وتحب مريم، وصوت عبد الباسط.
وتلك الجميلة، كانت تسحر شباب ضيعتها، ويغرم بها بعضهم وكتبوا لها الأشعار وخطوا الرسائل... وعند المناسبات والأعياد، يتسابق شبان البلدة للوقوف بمحاذاتها، ومسك يدها حينما تعقد الدبكات في ساحة الضيعة. وهي الفتاة المدللة في عائلتها، محبوبة من الجميع، وعندها الكثير من الصديقات كانت تميز واحدة منهنّ هي كاتمة أسرارها.
كل هذا، كان يثقل عليه الكثير من الأسئلة ولا يعرف الإجابة عن أي منها:
فهل يعقل أن فتاة بمثل جمالها وهيأتها وشخصيتها لا تعرف صديقا، حبيبا أو عشيق؟
وهل إن مدت يدها وسلمت عليه بلهفة ومشت بالقرب منه يعني أنها معجبة به؟!
صار يحاور نفسه ويضحك كلما تذكر ذلك القول: "إن أردت أن تنسى حبا وتخلص من آثاره عليك أن تُحب من جديد" بدا له هذا القول سخيف، إلا أن ذلك قد بدأ ينجح، وبدأ يشغل باله، وهذا يعني أن ذلك سوف يساعده على نسيان تلك الخيبة؟
مضت مسافة الطريق دون وقت، مرت الدقائق كأنها حلم، لم يسمع أي صوت، لم يرى أحدا في الطريق سواها. كان يبحث عن مفتاح جملة يقولها فلم تسعفه الكلمات. ظل صامتا وكذلك هي..! ينظران إلى بعضهما بطرف الأعين،
فيرى تلك البسمة لم تفارق ثغرها
الشهي حتى وصلت إلى مركز عملها.
لم تتوقف لتقول وداعا، بل لوحت
بيدها ،استدارت ومشت رفع يده
ليرد لها التحية لم تلتفت ولم تراه.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رأفت العزي
Admin
رأفت العزي


عدد المساهمات : 75
تاريخ التسجيل : 31/10/2013

واقع يلفه الحلم  Empty
مُساهمةموضوع: رد: واقع يلفه الحلم    واقع يلفه الحلم  Emptyالإثنين فبراير 27, 2023 10:38 pm

-18-

(( لا تجارب في الحب ))

لما أدارت ظهرها ومشت، تسمر في مكانه قبل أن تغيب عن نظره لعلها تلتفت، فلم تفعل. وفجأة، تغير حاله، فبدا واجماً، ثم أكمل طريقه بهدوء ولا يعرف لماذا شعر بعدم الرضى وأخذ يتساءل: أين ذهب عقله ولماذا ابتلع لسانه طوال الوقت وهو الذي باستطاعته الحديث لساعات؟!
كان عقله يستحضر كل المشاهد، ويسأل بمرارة: أين الخطأ ؟! كان يشعر بالخيبة من نفسه كلما تذكّر صمته السخيف أمامها. فهل كانت تشعر هي الأخرى بنفس الشعور وتلوم نفسها ؟ لا .. لم يعتقد ذلك .. لقد بدت أقوى منه، وأوضح. ولأول مرة في حياته كان قد شعر باهتزاز ثقته في نفسه!
الحب في ذلك الزمن لم يكن مكالمة تليفونية، أو رسائل نصية، وأخرى إلكترونية تذهب وتأتي بضغطة اصبع... والعلاقات الإنسانية لم تفقد براءتها
ولا عفويتها... وكانت الرسائل الورقية التي يعكف العشاق على كتابتها
لساعات، تتسم بالمشاعر الفياضة
والرقة والمناجاة بأجمل العبارات والاستعارات .
حينما تكتب رسالة عشق ، تفكر مثل الشعراء، وتتأمل كما البوذيين ، تضع القلم على فمك كأنك تقبله لطاعته بنانك ، حتى يكتب دون أخطاء أو هنّات، وكلما كتبت سطراً تتوقف أمام الكلمات ، تنظر فيها كأنها لوحة
ترسمها أنت ، وتلاحظ التفاصيل
بدقة رئيس غرفة عمليات عسكري . ترفع رأسك نحو السماء حتى لو كانت تحت سقف غرفتك ، كأنك تتعبد وتناجي الله في صلاتك. تأخذك كلمات أغنية نحو متاهاتٍ وطربٍ وتصوف
حتى البكاء ؛ والفرد ، لم يكن معزولا عن مجتمعه في أسوأ الظروف ؛ فالمحيط كله يعرف، أن هذا الشخص عاشق. والحب يغمر حياته، ويطغى على مظهره مثل مرض جلدي لا يستطيع المرء إخفاءه ولا الشفاء منه بسهولة؛ وقد عانى عصمت من قبل هذه البداية الغرامية التي بدت له من أولها محيرة وبلا أفق. لقد احب من قبل وخاض عدة تجارِب ولكن ... في الحب، لا تتكرر التجارِب. كل الأشياء تخضع للتجارب إلا الحب. كل حب له مسار مختلف، وظروف مختلفة، وأحاسيس جديدة، حتى الأم، كل ولد من أولادها له مسار حب مختلف عن الباقين ... لذا ،
قرر في اليوم التالي حسم الأمر، فهو لا يحتمل أن يعود إلى السهر والتفكير في فتاة لا يعرف سرها، فحرص على أن لا تراه لأيام ثلاثة كانت صعبة عليه!
- "ولِك يا عمي ما يكون صارلو شيء هالرجال؟"
قالتها بصوت المفترض أن يصل إلى أذنيه، تَعَمَّدْت ذلك ، وكتاب "النبي" كان بين يديها، تروح وتجيء . خرج من خلف الباب وقلب دلو الماء رأساً على عقب ووضعه بمحاذاة شباك الغرف المقفل، وجلس عليه وفي يده أيضا كتاب. وعند اقترابها ، جهرت بصوتها، تقرأ وكأنها ترتل
في كتاب مقدس:
"وأنت لست بالغريب بيننا، كلا، ولا أنت بالضيف، بل أنت ولدنا وقسيم أرواحنا الحبيب ؛ فلا تجعل عيوننا تشتاق إلى رؤية وجهك."
كان الكتاب الذي بيده ل عصمت سيف الدولة " الطريق إلى الوحدة العربية"
كان يحمله من أجل فقط تبرير جلوسه في ذلك الممر المشترك أمام غرفته ، ولم تخطر له تلك الحيلة القديمة التي كان المغرمون يتبادلون فيها الكتب، ويضعون على صفحاتها خطوطا تحت كل سطر وكلمة تحمل معان لتُشكل في نهاية الكتاب، رسالة يفهمها الطرف الآخر - الذكي- فيستخلص من السطور تلك وما تحمل صفحات الكتاب . رسالة تتحدث عن المشاعر والأحاسيس ... ثم يقوم الطرف الثاني برد الكتاب وبين سطوره أيضا رسالة ؛ أو يحمل الكتاب في بطنه واحدة ورقية مكتوبة بخط اليد وتعبق بأطيب العطور ... ولكن مهلاً... لم يخطر له في تلك الساعة أن ذهابها وإيابها كان من أجل أن توصل رساله بين السطور ، بل كانت بصوتها ومما حمل الكتاب من كلمات. فليس بينهما تبادل للكتب!
لكنه وبسرعة بدأ يقلب في صفحات الكتاب الذي بين يديه إن لم يجد فيه ما أراد،سوف يرتجل؛ ألم يكتب المئات من رسائل الغرام لجميع أصدقائه!
لكن، وبينما بدأت رحلة العودة باتجاهه لم يجد في تلك العَجَلَة ما يجيب عما قالته أو قرأته سيان. لكنه رتّب ما سيقول، وما أن مرّت ببطئ أمامه حتى صار يردد قولا من وحي الكتاب الذي بين يديه ليُسمعها، كان وكأنه يقود خلية حزبية ويلقي في الأعضاء محاضرة باهتة قال: " نحن أبناء شعب واحد ، وأمة واحدة، تجمعنا اللغة، ويجمعنا التاريخ الواحد، ونواجه المصير الواحد، الأرض هي أرضنا ، عشنا كل الزمن فيها نتشارك نفس العادات، والتقاليد . والدين هو دين الله والأمة ونتاجها الحضاري : اليهودية والمسيحية والإسلام وأنا لا أشعر بنفسي أنني غريب ها هنا" !
ردت بارتجال زجّال مرح وقالت:
" ما فهمت منك شيء وبالرجعة
قلُوب الصفحة"
وفي مسارها الأخير قرأت:
"إذا أشارت المحبة إليكم فاتبعوها،
وإذا ضمتكم بجناحيها فأطيعوها،
وإذا خاطبتكم فصدقوها".

فردّ عليها بصوته الشجي: "
بكره تقابلني واقابلك
بكره الأمل حيبان
وتقوللي بكره وأقولك
الدنيا فيها حنان "
وفي اليوم التالي، انتظرها كما المرة السابقة... وحينما وجد اللهفة في
وجهها غرّد طول الطريق كما الكروان.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رأفت العزي
Admin
رأفت العزي


عدد المساهمات : 75
تاريخ التسجيل : 31/10/2013

واقع يلفه الحلم  Empty
مُساهمةموضوع: رد: واقع يلفه الحلم    واقع يلفه الحلم  Emptyالإثنين فبراير 27, 2023 10:39 pm

-19-

((واحة أمان ))

واعدها بعد انتهاء عملها فوافقت على تناول كوب شاي بحليب في محل صغير يقع في نفس الزقاق الذي تسلكه ، عادة ما يؤمه السياح الأجانب ويقع بجانب معرضٍ لصناعة الصابون وهو أيضا معلم سياحي لآل عودة، أصحاب البنوك المنتشرة في كل العالم وتحمل نفس اسم العائلة .

المكان عبارة عن دكان يمتد في عمقه لعدة امتار يتسع لثلاثة طاولات ومقاعد خشبية مريحة ملتصقة بالجدار الحجري، ويحاذي الطاولات كراسي من الخيزران كل طاولة مخصص لها كرسيان والمقعد الخشبي الشبيه بمقاعد الكنائس.
واجهة المحل وبابه من الخشب الجميل والزجاج الملون وخلفه ترتفع بلاطة من الجرانيت البني وضعت عليها مستلزمات العدة اللازمة لتقديم الحليب الساخن او الشاي أو كلاهما أو مشروب السحلب
مع الخبز الإفرنجي الطازج ، والفصل كان شتاءً في الشهر الأقصر من شهور السنة.

جدران المحل وسقفه المقوس بقناطر مبنية كما معظم جدران البيوت والداكين
من الحجر الرملي القديم الجميل والذي يزداد جمالا وروعة بقدر ما يتفنن أصحاب المحال بتركيب الإنارة وألوان الأضوية والتي كانت تضفي على المكان رومانسية، كان صاحب الدكان يعتقد أن ذلك يعجب السياح الأجانب وربما عمل حساب جلوس حبيبين ولو بالصدفة مثل التي جمعت حسناء وعصمت هناك .

في جلستهما الأولى، قالت حسناء أشياء كثيرة عصمت يتذكرها بكل وضوح، وهو قال كلاما لم تنسه طوال عمرها.
وإن أهم ما قالته : " إني معجبة بك منذ تلك السنوات التي كنت تحضر فيها لبيت أم حسني"
وأهم ما قاله بصدق " لقد سحرتني مذ مددت لك يدي للتحية".

بعدها، صار ينتظرها في معظم الأيام بعد دوام عملها، يترافقان، يتسكعان في أزقة المدينة، يتحدثان ويضحكان، ويتبادلان كلمات الغزل... يتهامسان بالأغاني، والمعاني... يده بيدها معظم الأوقات، فرِحان بكل شيء، لا يدرِيان ما الذي يخبئه المستقبل لهما، بل كانا لا يتحدثان عنه إطلاقا... كأن الدنيا كلها لهما، ولا يشغل بالهما وجود المارة، ولا سماجة أصحاب الدكاكين الذين اعتادوا رؤية الحبيبين معا. منهم من كان يعرفها حين كانت تمر وحدها منذ أكثر من سنة، منهم من كان يطلق الصلوات على النبي غزلا... ونظرات الإعجاب من البعض الآخر كانت تزيد من ثقتها بما وهبها الله. لم تغير طريقها ولا مرة، لم تسارع في خطواتها خوفاً، بل كانت تمشي على إيقاع رصين... على طول الطريق، وكان هناك من تلقي عليهم التحية، تبتسم لتنال ادعية من فم باعة مسلمين...! فهذا الخضري السمين أبو إسماعيل ، يسألها عن الوالد وتجيبه:" بيسلم "وذاك البقّال أبو الوليد يكرر على مسامعها كلاما طيبا كلما مرت... وهذا الخياط أبو جورج يفتح باب دكانه على توقيت مرورها يسألها بدوره عن العائلة وزوجته تسأل عن والدتها... مع كل هذا كانت حسناء تشعر أن أزقة المدينة وسكانها الطيبين، حضن الأمان الذي يحميها، لا فرق إن مرت في الزقاق فتاة مسيحية أو يهودية ف "الكنيس" في حارة اليهود يدخله المسلم متى شاء، واليهودي يمارس شعائره دون حماية من أحد... وينتشر في جنبات المدينة وقلبها عدد كبير من الكنائس، يُرفع فيها التقديس والصلوات، وتقرع فيها الأجراس يوميا... كما تُرفع الآذان والصلوات في المساجد... جميع سكان المدينة يعيشون في سلام ووئام. وكل هذا، كان يُشعرها بالسعادة، بالأمان. فكيف إذاً وقد تغير حالها بعدما صار إلى جانبها حبيب تعرفه كل الطرقات؟
فهو ابن المدينة، ومن سكان تلك الأحياء... ومعظم أبنائها يعرفون من هو : أصحاب المَحَالّ، الأفران، العصير، والفول، والفلافل والقطايف... كلهم يعرفنه جيدا، فهو من "أدّب فلانا" عند زاوية المحمصاني لأنه اعتدى بالضرب على بعض الصبية هناك . وهنا ، أمام باب سينما الحمراء، نزع موسى من يد أحد الأشرار ورماه بعيدا بعدما سبب له جرح عميق في إحدى يديه قد أدماه... أدبه جيدا بالرغْم من جروحه ، وجعله لا يظهر في شوارع المدينة لأسابيع... مع ذلك لم يفتن عليه حينما أتت الشرطة لتحقق في ذلك ؛ اعترف بالمشكل ،ولكنه أدّعى أن الجرح نتيجة وقوعه على زجاجة مكسورة بالرغْم من تعرضه للخطر ونزف يده دمًا لساعة قبل ترميمها عشرين قطبة على الساعد والمرفق.
وهناك أمام مدخل أحد المساجد عند بائع العصير، كانت توضع له صورة كبطل رياضي يعتز به صاحب الدكان. كما تُرفع له صور متفردة ومعروضة أمام المارّة في واجهة أهم المصورين في المدينة.
هكذا كانت اهتمامات الناس: "البطل الرياضي أهم من رجل السياسة" وقد صار هو وحسناء حديث الناس أينما مرّوا.
:- "ولك هَيْدا فلان ابن فلان، وهيدي فلانه بنت فلان، المسيحية...! كيف هيك؟!"
يردّ آخر-:
"ولك الحب أعمى، بس يا بييييي ، شو بدو يصير بكره مشِيكِل"
"ولك ايييه…! لأ والمصيبة شووو ،مش بس انه مسلم،، لا .. وفلسطيني كمان! وخذلك مَلاَّ فرجه بكره … يا خيي شو بعرفني ، الدِني آخر وقت"

معظمهم يعرفنه جيدا... هنا في الزقاق الأهم، بائع الحلويات اللذيذة، قطايف وعوامات ومشبك بالألوان يسعى لإظهار مودته تجاهه الحبيبان:
"الله يخليك، هاي وبس، ما تفشلني الله يوفقك... طيب بحطلكن صحنين؟
لا شكرا "
- طيب…! إذا ما بدكُن تُعْدو، كلوُّن على المِاشي حبيب القلب ، الله يخليك "
المعلم" نعيم " صاحب فرن الكعك اللذيذ ، كانت حسناء هي من تطلب من عصمت أن يشتري لها كعكة بزعتر، فيطير من الفرح ويأبى صاحب الكعك أن يقبض ثمنه ويحلف ألف يمين.
معظمهم قد ازدادوا لطفا وكرما! فمن هو الذي لا يعرف هذا الرياضي؟ فهو من أبطال المدينة المشهورين مثل مصطفى طرحة، عبد الغول، صابر موسى، أحمد حبلي أحمد الصيفاوي والعدّاء ابراهيم المدبولي وغيرهم "؟!
فهو في ريعان الشباب، كلما غرق في الحب، يزداد رقة مع الحبيب، وخشونة مع كل من كان يطيل النظر إلى حبيبته.
قالت له مرة" إن لم يعودوا إلى ما كانوا عليه من ودّ اتجاهي لا تمشي معي! "
ثم ضحكت بعدما رأته قد أصيب بصدمة، وعادت إلى مراضاته، لكن رجته حينما يكون برفقتها أن لا يبقى عابسا، وقاطعته لأيام شعر بمرارتها. عندما أطال أحد المارة النظر إليها فصفعه على وجهه دون سبب! ولما تصالحا صارحته بفعله الشنيع، فاعتذر إليها على ألّا يكرر تلك مرة ثانية، ولم يصدق.
ربما كان هذا الدرس الأول الذي جعله فيما بعد ودودا رقيقا أمامها، وبعدما تَفَرَّدْت صورتها أمام عينيه منذ تلك الأيام .
كل ذلك كان يجري قبل ذلك اليوم الذي صحي فيه متأخرا، حينما قرعت بابه أمام الجميع ودون حرج من سؤال.
وحدثته لأول مرة أمام والدها، أمام الجيران كلهم... فالجميع كانوا يهنئون بعضهم، والحرب الدائرة منذ ذلك الصباح الباكر كانت سوف تؤدي إلى تحرير فلسطين وعودة اللاجئين منهم إلى بلادهم بعد 20 عاما من التهجير والعذاب والحرمان
هكذا كان يقال .

سأله والدها بهدوئه المعهود: من أي بلد أنت من فلسطين يا ابني؟ !
قال عصمت : " من حيفا ! "
هل تعرف حيفا يا ابني ؟!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رأفت العزي
Admin
رأفت العزي


عدد المساهمات : 75
تاريخ التسجيل : 31/10/2013

واقع يلفه الحلم  Empty
مُساهمةموضوع: رد: واقع يلفه الحلم    واقع يلفه الحلم  Emptyالإثنين فبراير 27, 2023 10:40 pm

-20-
((هل كان القرار صائب؟))

هل تعرف حيفا يا ابني؟!
- "لا، لست واعيا إنما تتراءى لي كالحلم"
- أنا أعرف حيفا! عشت فيها مدة من الزمن، وعدد من أفراد عائلتي ذهبوا للعمل هناك... أقمنا في "هدار الكرمل\" وكنا سعداء... وهناك كنت سأرتبط بوالدة حسناء، ولكن الحرب أعادتنا إلى لبنان... المهم يا ابني، ربنا يردكم لبلادكم سالمين... فلسطين حلوة. "

كانت تلك الكلمات كافية ليتعرف على الرجل الذي لا يرتفع صوته أبدا... عندما يعود من عمله، كان يقضي معظم وقته جالسا أمام باب منزله هادئا دائم الابتسام... وكان يحب" الكأس " يعمر طاولته ببعض المازات وكأسا من العرق كان يستدعي كأسا آخر.
لقد عاد هذا الرجل من وظيفته في ذلك النهار مسرعا حينما شاعت الأخبار وجلس أمام منزله وبدل الكأس وضع الراديو والتمت حوله الجيران لتستمع، حيث ما زال المذيع يكرر البيانات، ويدعو العرب إلى التطوع ذوداً عن
كرامة الأمة، لتحرير فلسطين.
ولكن العم أبا إلياس كان يبدو قلقا ومتحفظ في تعليقه على الأخبار، في نفس الوقت، كان هناك من يتبادل الغمزات والكلمات .. وفجأة قامت حسناء بتوجيه سؤال مباشر إلى أبي مصطفى : " هل سترحل وتعود إلى عكا عمو "وقبل إجابته عن سؤالها توجهت بنفس السؤال نحو عصمت، و بنظرة مدهشة وصوت هامس دافئ، وعينين لامعتين أطالت فيهما النظر بانتظار الجواب، ارتبك عصمت وأحس بوكزة في صدره، وحيرة في نفسه، و بإعياء يتملكه تماما؛ لقد فكر في تلك اللحظة كيف سيترك هذا المكان ويذهب في ذات النهار "ليتطوع؟"ولا يريد لأحد أن يسبقه في ذلك ؛ كان يفكر في تلك اللحظة كيف سيعاني بعد أن استقر قلبه وصارت حسناء كل دنياه.. لكنه عاد وتماسك، اقترب منها وقال بصوت متقطع :
" لا أحد يتردد بالعودة إلى أرضه المسروقة "ثم انفرج وجهه عن
ابتسامة كاذبة " سنأخذكم معنا ،
* أولهم والدك المحترم " ونظر في عيني والدها" قل لي يا عمي أبو
إلياس ألا تريد العودة إلى حيفا؟ "

لكن أبا إلياس قام من بين الجموع ومشى عشرون خطوة باتجاه بيت " إفرايم " وبصوت واضح نادى على الجار اليهودي والذي كان قد صرخ قبل قليل بأعلى صوته عندما كان أبو مصطفى يصرخ ويقول" الله أكبر بدأ التحرير " كان إفرايم يدعو من داخل منزله
بصوت عال ومبحوح ويقول :
" إن شاء الله يا ربي " كررها عدة مرات.
لكنه لم يتأخر في القدوم ليجلس مع جيرانه، نظر في وجوه الحاضرين وتوجه نحو جاره الأقرب لمسكنه والدموع تملئ عينيه وقال : " ألم أكن أحدثك من قبل، وقلت مرارا إن انتصر العرب سنحيا بكرامة، وإن انهزموا سوف نتلقى نحن هنا، ردات فعلهم ونعيش أذلاء محاصرين؟
ألم أقل لك يا جار بأنا سنتهم بالتجسس وبتقديم كل المعلومات المطلوبة لهزيمتهم؟!"
كان إفرايم يتحدث ويدعو لانتصار العرب على الكيان" الكولونيالي! "
استغرب عصمت أن يكون هذا اليهودي بهذا الحماس، ويقول كلاما لم يفهمه أحد، متعجبا من الاسترسال في حديثه شارحا لماذا هو متحمس لانتصار العرب حينما سأله عصمت قال:
" عندما هُزم العرب في الأندلس، عاملنا الأوروبيين بالقوة والشدة والعسف، وفرضوا علينا الحصار لمئات السنين... وكل يهودي قارئ للتاريخ يعرف أنه جزء من المجتمع العربي، وعلى امتداد أرض العرب من اليمن حتى مراكش وهو جزء من النسيج الاجتماعي. عشنا بسلام لآلاف السنين "!
كان افرايم لا يسكت عن شرح ما كان مقتنعا به إلا عندما كان الجميع ينصتون عند كل خبر جديد.
لكن عصمت لم يكن ليقتنع بهذا الكلام، وربما لم يكن ليفهم مغزاه أو صدقه… إلا أن السنوات القادمة قد كشفت أن إفرايم وعائلته قاموا بوداع جيرانهم بعد أن بكوا كثيرا وهاجروا إلى كندا ولم يذهبوا إلى كيان العدو ابدا على الرغم من الإغراءات وبقوا على اتصال دائم مع معظم الجيران واقربهم .
***
" إن لم أكن الأول فمن يكون إذاً؟ "
كان يردد هذا الكلام عند كل حدث يواجهه ويقدِم دون سؤال أو تفكير مسبق بالعواقب.
قبل سنة ونصف تقريبا من ذلك التاريخ، قرر عصمت التطوع في جيش التحرير الفلسطيني" لواء حطين ".
( ولهذا حكاية ربما كان عصمت نفسه لا يعرفها حتى الذين عاصروا تلك المرحلة لم يتوقفوا للسؤال ) :
أنشئت منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 عقب قرار صدر عن القمة العربية التي عقدت بالقاهرة في 13 يناير/ كانون الثاني 1964
وكان ذلك مطلبا فلسطينيا ملحا دعمه جمال عبد الناصر وكُلف المناضل أحمد الشقيري في نفس التاريخ من المؤتمر، بأن يقوم هو (وكان مندوب فلسطين كعضو مراقب في الجامعة العربية) بإعداد خطة تتلخص فيها الأفكار والتصورات لإنشاء كيان سياسي لفلسطين من الفلسطينيين ويقدمه إلى القمة العربية التي عقدت بعد ثمانية أشهر من القمة السابقة وذلك بتاريخ 5 سبتمبر/ أيلول 1964م في مدينة الإسكندرية.
حيث تمت موافقة الجامعة العربية على إنشاء الكيان بعدما أسفرت جهود الشقيري من خلال زيارته للعديد من التجمعات الفلسطينية المنتشرة في الدول العربية عن انتخاب" المجلس الوطني الفلسطيني "الذي يعتبر بمثابة السلطة التشريعية للمنظمة.
وتم عقد مؤتمر عربي فلسطيني لهذا الغرض في القدس الشرقية في 28 أغسطس/ آب 1964
وأُعلن في ذلك المؤتمر
عن قيام هذا الكيان السياسي الذي أطلق عليه " منظمة التحرير الفلسطينية "
وقمة الإسكندرية تعتبر من أهم القمم العربية والتي اتخذت فيها القرارات التاريخية بتضامن عربي جامع، وأهم هذه القرارات تتلخص :
1- المصادقة على" الميثاق القومي "للمنظمة وعلى نظامها الأساسي، وانتخاب الشقيري رئيسا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير
2- تبنت القمة العربية ما صدر عن مؤتمر القدس إياه، وقرر العرب مجتمعين متضامنين
أ - خطة العمل العربي الجماعي في تحرير فلسطين عاجلا أو آجلا
ب - البدء بتنفيذ مشروعات استغلال مياه نهر الأردن، وحمايتها عسكريا
ج- الترحيب بمنظمة التحرير الفلسطينية، ودعم قرارها بإنشاء جيش التحرير الفلسطيني."
ومؤسسات أخرى يمكن الحديث عنها في سياقات أخرى... لكن الأهم كان "إنشاء المؤسسة العسكرية" تحت اسم جيش التحرير الفلسطيني "وهو عبارة عن اربعة الوية عسكرية تكون مرتبطة بجيش كل دولة من دول المواجهة الأربعة وتخضع للقيادة الموحدة تحت رعاية الجامعة العربية واستثني لبنان واعتبر دولة مساندة نظرا لوضعه الداخلي. وتوزعت تلك الألوية كما يلي:
مصر- لواء عين جالوت
سوريا- لواء حطين
العراق- لواء القادسية
الأردن- لواء اليرموك.
ولم ينشط منها سوى لواء حطين في سوريا وهي قوات منتخبة تتمتع بقدرات عسكرية متقدمة .
***
كان سفر الفلسطيني إلى سوريا في ذلك الزمن، يحتاج إلى تصريح خاص من مخابرات الجيش اللبناني؛ وأكثر من ذلك، حتى انتقاله من صيدا إلى صور كان يحتاج أيضا إلى نفس التصريح من ذات الجهة حتى لو أراد الشخص زيارة أقارب متواجدين في مخيم من مخيمات صور كالبص والرشيدية؛ ولا تحصل على التصريح أيضا إلا لسبب معلل، وبما أن عصمت وصديقه لا يملكان سببا لسفرهم، قررا عبور الحدود تسللاً؛ ولشدة حماقته وثقته بمعلوماته الجغرافية أقنع صديقه بالتسلل
عبر جبل الشيخ! وكعادته رسم الخريطة لصديقه وأقنعه " أنها الطريق الأقصر: النبطية، مرجعيون ،الخيام، ثم صعودا صعودا نحو شبعا وبعدها ننحدر ونصبح في سوريا"
وهكذا بدأت المسيرة ،فتجهز الصديقان، تمونا بأقراص معمول بتمر وعلبة راحة الحلقوم والكثير من البسكويت ولم يعملا حساب الماء لأنه شهر شتاء وبرد "والثلوج كما ترى أمامنا" وبدأت المسيرة عند الظهر إلى النبطية ومنها مشيا على الأقدام باتجاه جبل الشيخ. وبعد ساعات من المشي تحت المطر، أضاع عصمت الاتجاهات بسبب حلول الظلام، وبدأ وصديقه إبراهيم يبحثان عن ملجأ يبيتون فيه... فجبل الشيخ كان يمشي كلما اقتربا منه ويبتعد. ، صرخ إبراهيم بصوت عال " رجلي علقت" وبعد التحقق تبين أنه قد دسّ رجله في كومة شريط شائك فتجاوزه ... وبعد أمتار قليلة فوجئ الصديقان بصوت آمر، حازم وواضح " قفوا في اماكنكم وارفعوا يديكم ولا تأتون بأي حركة مشبوهة."
التفت الصديقان ونظرا في غبش المكان فتبين أن اثنين من الجنود يشهران سلاحهما باتجاه عصمت ورفيقه.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رأفت العزي
Admin
رأفت العزي


عدد المساهمات : 75
تاريخ التسجيل : 31/10/2013

واقع يلفه الحلم  Empty
مُساهمةموضوع: رد: واقع يلفه الحلم    واقع يلفه الحلم  Emptyالإثنين فبراير 27, 2023 10:40 pm

-21-
((هل كان محض افتراء))

-" إلى أين تأخذوننا؟ نحن لم نفعل شيئا!
ولماذا تريدون تقييد يدينا نحن….. "
-"سكوت وله.. إذا بطلع حسك أنت وياه ، بفج روسكن كل واحد برصاصة.." وبنبرة مخيفة : " شلحوا قمصانكم "
- " سكتنا! ولكن لماذا نشلح ؟ البرد شديد… اي اي.. لماذا تحشر يديّ هكذا لقد أوجعتني "
- اسكوت يا ابن …
وهلق بدي اعميك"
تولى إبراهيم الحديث مع الجنود وهم يربطون أيديهما ويضعون قمصانهم على أعينهم وعصمت لم ينبس ببنت شفا، بقي صامتا وينفذ ما يطلب منه بهدوء تام؛ وما هي إلا دقائق قليلة وإذ هم داخل غرفه ضيقة أقفلت عليهما بعد أن فكوا وثاقهما ولبسا قميصيهما وتُركا يخمنان هل هما داخل الأراضي المحتلة ..؟ لكن هؤلاء الجنود يتحدثون العربية كما نحن نتحدثها تماما قال عصمت :" لا أظن أن هؤلاء إسرائيليون، نحن لم نرى وجوههم ولم نتحقق من البستهم العسكرية" .

مضت ساعات ثقيله على الصديقان وكانا يشعران بالبرد الشديد والطقس كان عاصفا وهما يجلسان على البلاط كفأرين يتحسبان لهجوم قطة جائعة.
حينما دخل أحد الجنود كان يحمل كوبين من الشاي فتبعه آخر مسلح وجندي ثالث أوثق يدي عصمت وأخذه إلى غرفة بعيدة فوجد نفسه أمام ضابط بدأ التحقيق معه.

بعد اقل من ربع ساعه اعادوه ثم أخذوا ابراهيم فمثل أمام نفس المحقق :
" من اين انتم؟
من صيدا
ماذا تفعلون هنا؟
كان الصديقان قد اتفقا على رواية واحدة رددها إبراهيم بالحرف :
" نحن من هواة المشي، وكنا نعمل في مدينة النبطية، تحمسنا لمغامرة وكان الطقس جميل، مشينا فداهمنا المطر والضباب، ولم نعرف اين وصلنا ؛ يا سيدنا اين نحن الآن؟! "

تسألني يا جاسوس يلعن أبو.... . !
ضحك ابراهيم بسذاجة وانضبط بعد تلقيه ضربة على منتصف ظهره اسكتته وقطعت أنفاسه؛
فكل ما تلقاه المحقق من عصمت، تلقاه تماما من إبراهيم فعرف أن الشخصان قاما بالتدرب على ذلك. أنهى مهمته بسرعة وفي الصباح الباكر شُحنا من ثكنة مرجعيون إلى ثكنة صيدا العسكرية.
وكان ذلك من حظهما السعيد أنهما في ايدي الجيش اللبناني وحمدا لله على أنه قبض عليهما بتلك الليله وإلا لو واصلا بنفس الاتجاه لدخلا الأراضي المحتلة وقبض عليهما أو أطلقت عليهما النار دون إنذار.
في ثكنة محمد زغيب في صيدا لم يساعدهما احد من الجنود في إيصال رسالة إلى ذويهم ولم يعرفا أن من النادر إيجاد جندي صيداوي ومعظم الجنود هم من خارج صيدا من ريفها وبعض القرى البعيدة جدا عن المدينة… بعد يومين نقلا الى بيروت ثكنة الحلو واندمجا مع موقوفين كثر بينهم سبعة فلسطينيين من قطاع غزة و واحد في غرفة منعزلة مسجون بشكل افرادي.

كان الغزاويون يتحدثون باللهجه المصرية وبعضهم كان مرحا جدا فتعرفوا على عصمت ورفيقه، انسجموا ولم يختلفوا سوى على أمرين : مركز المنامة وعبد الناصر!
تسلية المساجين محدودة اغلبها قصصا يرويها فرد ويستمع اليه بقية الأفراد الذين لم يزد عددهم عن الأثنى عشر رجلا في مركز التوقيف المؤقت عدا ذلك المسجون افرادي.
آمر السجن اختار عصمت وإبراهيم الخروج من خلف القضبان إلى خارجه دون قيد في أيديهما سوى المكانس.. وعلى مدى سبعة ايام كانا يكنسان ساحة الثكنة والغرف في الطوابق السفلى يحرسهما جندي في أول يومين وبعدها صاروا يخرجونهما ليؤديا عملهما ويماطلان فيه حتى يبقيان خارج السجن ينظران الى المباني العالية حول الثكنة
ويشيرون بأيديهم لكل أثنى تظهر على اية بلكونة
وفي أي دور كانت تقف بانتظار. بعدها يأتي الجندي المكلف ويدخلهما الى السجن بعد تفتيش دقيق، وهذا الأمر، قد وضعهما عند الغزاويين موضع شبهة .. فإذا كان الأمر يتعلق بالتنظيف فلماذا لا يختارون غيرهما ؟
على اي حال زادت الخلافات ما بين الموقوفين على خلفية كره الغزاويين لجمال عبد الناصر وبقدر ما كان عصمت يحب ناصر كان مستعدا أن يقاتلهم بذراعيه التي كسرت كل اياديهم في لعبة الكباش وبعضهم لاطفه وقالوا له الا تريد أن تسمع؟!
كانت الساعة تشير إلى التاسعة مساء وعادة ما تطفئ جميع الأضواء في هذا التوقيت باستثناء غرف المساجين وتغلق جميع الأبواب ويسود الصمت باستثناء صوت السيارات في الشارع المحاذي للثكنة، وما يفصل الأشخاص الماشين على رصيف الشارع عن الاشخاص المسجونين سوى ذلك الجدار القائم على نفس الرصيف في ذلك
الشارع المؤدي إلى محلة " الصنوبرة" وشارع فردان.. ومن داخل الغرف يمكنك سماع حديث المارين ورؤيتهم أيضا إذا تبرّع شخص ما لرفع زميل آخر ويقف منتصبا على كتفيه وينظر من تلك الكوة التي لا يمكن لقطة سمينة الولوج منها .. كلما تقدم الوقت تتباطأ حركة الناس والسيارات؛ في تلك الساعة انتفض صديقنا الغزاوي وقال " كيف يمكن لنا كمساجين أن نرفض سماع بعضنا هناك شيء يطبق على صدري.. نحن من العمال الكادحين
اتفقنا على ترك غزة والإبحار هربا ولا نعرف وجهتنا حتى ألقت البحرية اللبنانية القبض علينا في المياه الإقليمية ولا نعرف ما سيحل بنا! سأتكلم لتعرفوا لماذا هربنا من وطننا وعائلاتنا نحو المجهول.. إن كنتم تحبون ناصر أو غير معنيين"
قالها ذلك الغزاوي الخشن وأخذ يتحدث
دون توقف :
" الجيش المصري الذي أرسله الملك فاروق ليساهم في تحرير فلسطين، يحكمنا منذ العام 1948، أربع سنوات قبل الانقلاب على ملكه، بعدها بشهر واحد، تغيرت معاملة الإدارة العسكرية المصرية من تعايش مطمئن كان الغزيون يحكمون أنفسهم بإدارة مدنية إلى وضع بدأ فيه سكان القطاع يعيشون الأمرين، فنشأ حكم عسكرية وقويت سلطة المخابرات، وكثر العملاء، وامتلأت السجون والادارة المدنية أصبحت من العملاء، بعدها بسنتين حدث العدوان الثلاثي واجتاحت دبابات الصهاينة القطاع واحتلوا كل سيناء في اقل من تسعة أيام، لم نرى فيها جنديا مصرياة واحدا يدافع عن القطاع والغزيون بأمر الحكم العسكري كانوا يسجنون الغزاوي على قطعة سلاح. بعد اربعة أشهر انسحبت القوات الغازية وعاد الجيش المصري إلى سيناء والقطاع "
كل هذا الحديث كان يجري بين ساعات الليل وكان عصمت يدافع عن الجيش المصري وعبد الناصر بشراسة وبقوة أكبر.. وكلما كان النقاش يحتد ينقضّ عصمت على المتحدث فيحميه رفاقه و يهدؤونه حتى انفجر الوضع بينهما عندما قال عصمت :
-" عبد الناصر سيحرر فلسطين غدا يا جاسوس "
- يُحرر؟! أنتم لا تعرفون شيئا " وبكى!
سأله عن الشيء الذي لا نعرف فأكمل روايته :

" حتى ما قبل العدوان الصهيوني كان الوضع على صعوبته محمولا، أما بعدما انسحبت قواته وعادت القوات المصرية فقد تعرضت مدن القطاع إلى حملة تفتيش عن السلاح من بيت لبيت وجُزّ بمعظم الشباب بالسجون، واكتشفنا أن شروط إسرائيل لانسحابها من سيناء وإعادة الجيش المصري لم يقتصر على مرور سفنها بالممر البحري في المياه المصرية، بل هناك اتفاق سري سموه "اتفاقية الجنتلمان" برعاية أمين عام الأمم المتحدة همرشولد غير موثق، تعهد فيه الجانب المصري بمنع أي عملية مقاومة للعدو من قبل الفلسطينيين،
ونحن الآن في عام 1966 يعني بعد عشر سنوات؛ هل سمعتم عن مقاومة غزاوية؟ وربك حجر واحد ما رمي على اسرائيلي ؛ أين يقاتل الجيش المصري الآن؟ هل القدس في جبال اليمن؟، "

كل هذا الكلام، كان يحز في نفس عصمت ولكنه لا يملك من المعلومات أكثر من تلك التي كان يتلقاها في اجتماعات الحركة ( القوميين العرب)

عندما كان عصمت يحدثني كنت ( أنا الراوي) أُفاجئ شخصيا فهل بدوري كنت مضللا ؟
***
بالرغم من إنذار الجنود لعصمت ألا يُكلم
السجين المعزول في غرفة يقبع فيها وحيدا فلم يرتدع . إنه العم " جلال " صديق والده ورفيقه
في النضال والكفاح ..
عرفه مذ كان صغيرا، كبر عصمت في بيت أبيه وكان يعرف كل أصدقائه، والعم جلال كان من أقربهم فكيف يرتدع ؟
كان يذهب ل" بيت الراح " مرارا بحجة قضاء حاجته ليتحدث معه بكلمات سريعة دون أن يتوقف، فهناك حارس يقف خلف باب حديدي بقضبان ويرى من يخرج من الغرفة لبيت الراح فباب زنزاتهم مفتوح أما باب زنزانة العم جلال لا تفتح ليقضي حاجته إلا عندما يصرخ فيأتي الحارس يخرجه ثم يعود ليقفل عليه الباب..
لكن طلبا غريبا ومستهجن طلبه العم جلال من عصمت : " عندما تخرج لتكنس ، احضر لي أي شيء معدن، شفرة حديدة، مفتاح علبة سردين، قطعة زجاج ليس مهم حجمها، أي شيء أي شيء!"
صار حكمت كلما خرج للكنس يبحث عن شيء
فلم يجد حتى دخل لينظف احد الحمامات في احدى الغرف فوجد مسمار صغيرة ناتئ من حاجب الباب فخلعه بأسنانه وخبأه في ثنية بنطاله السفلى وشكله مثل دبوس الخياطين في تلك الثنية .. والمشكلة كانت في كيفية إعطاء المسمار للعم جلال اخيرا همس له بكلمتين عند خروجه من قضاء حاجته ولم يطل الأمر حتى صرخ العم جلال " اريد قضاء حاجتي" عندما سمع صوته ضحك حكمت لكن محدثه الغزاوي صاح به : "يخرب بيت ابو اللي خلفوك، ده الراجل عايز ينتحر وانت بتساعده؟!
خرج من الغرفة دون أن ينبه الحارسة الذي هدده ليعود ويطلب الإذن لكنه تجاهل وأطل من فتحة الباب المقفل وصرخ للجندي :" الراجل بينزف" .
صرخ الحارس على رفاقه فهرعوا وهم يشتمون ويتمتمون فأغلقوا على الموقوفين وفتحوا الباب المغلق وحملوا العم جلال وسط هرج ومرج وهدأت الغرفة بمن فيها بينما أخذ عصمت يضرب الجدار بقبضة يده ويلوم نفسه وأصبح عرضة للتهكم من ذلك الغزاوي
" مش بقلك لسّاك صغيّر! "
حمدا لله قال عصمت بعدما عاد العم جلال بعدما أوقفوا نزف شرايين معصميه وربطت يديه بأربطة طبية ومنعونا من الخروج برغم نفي العم جلال صلته لا بعصمت ولا برفيقه لكن وبعد يومين أُخذ العم جلال من زنزانته ولم يعد بعد خروج عصمت من تلك الورطة، علم بأن العم جلال كعوش قد أصبح في عداد الشهداء وصار ايقونة نضالية قدسها الفلسطينيون وحمل صورته في إحدى التظاهرات وبكى عندما بكاه والده .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رأفت العزي
Admin
رأفت العزي


عدد المساهمات : 75
تاريخ التسجيل : 31/10/2013

واقع يلفه الحلم  Empty
مُساهمةموضوع: رد: واقع يلفه الحلم    واقع يلفه الحلم  Emptyالإثنين فبراير 27, 2023 10:42 pm

-22-
(( نجم الشام وقبلة ثوار العالم))


كانت تلك المغامرة قبل سنة وبضعة أشهر
تلك التي دفعت الرفيقين للمشي في جرود لا يعرفون دروبها، وأدت بهم إلى السجن 17 يوما تعلم فيها عصمت دروسا كثيرة... أما ما هو قادم شيء آخر. لقد قرر التطوع مباشرة والذهاب إلى جبهة القتال.. لكن ، حركة القوميين العرب لم تعلن عن إنشاء تنظيم عسكري إلا بعد سبعة أشهر من هزيمة حزيران. والذي كان يحدث هو قيام تنظيمات سرية للعمل الفدائي. على غرار المجموعات الصغيرة التي كانت تعمل وفق توجه النظام في سوريا كتلك المجموعة التي كانت تضم والد عصمت مع عدد من الرجال منهم العم جلال كعوش الذي استشهد في شهر كانون الثاني 1966؛ وعُرف فيما بعد أن هناك مجموعة أكبر تأسست أيضا في سوريا عام 1958 باسم الجبهة الشعبية القيادة العامة ورئيسها أحمد جبريل. ولكن كل تلك المجموعات كانت شبه سرية غير تلك الحركة الفدائية التي أعلنت عن قيامها في الشهر الأول من العام 1965 باسم "قوات العاصفة" كما أعلنت هي في بيان موجه إلى الأمة العربية كلها.

فبعد الهزيمة المدوية في الخامس من حزيران، كل الأطراف التي شاركت في الحرب أو تلك التي تعرضت للعدوان الإسرائيلي واحتلال أراضيها سعت لمصالح كبرى مختلفة من اجل أن يقف أحد ليقاوم ذلك الصلف والغرور الإسرائيلي الذي كان يطيح بنفسيات الناس ، ويجعلهم أذلاء في نظر أنفسهم؛ فعبد الناصر خرج كالأسد المجروح يعلن استقالته من الحكم والجماهير الغاضبة واليائسة صارت تبكي كالأطفال في الشوارع وتقول " احنا فداك يا ريس" واستجاب لنداء الشعب، و عاد عن قراره. فالجيوش العربية انهارت وتفسخت وأصبحت محل تهكم حتى من أقرب الناس إلى أنظمتها. وغير الكثير الناس من أفكارها، فحركه القوميين العرب التي كان عصمت ينتسب إليها قد اتجهت يسارا وتخلت عن فكرة القومية العربية. ونبتت تنظيمات وحركات وأحزاب يسارية وحركات وأحزاب إسلامية كردة فعل على الهزيمة . جميع الأطراف المهزومين والداعمين وحتى المعادين أرادوا جميعهم وقف "الدولة الصغيرة" التي انتصرت في 6 أيام على ثلاثة دول كبرى مع حلفائها من باقي الدول العربية، وإن أول تلك الدول الغربية كانت فرنسا التي أوقفت جميع شحنات الأسلحة إلى كيان العدو، أمريكا صوتت إيجابا على قرار 242 البريطاني الصياغة. وكانت ممتعضة بعد أن قامت القوات الإسرائيلية بضرب سفينة التجسس الأمريكية \"ليبرتي\" وقتلت عددا من بحارتها. الاتحاد السوفييتي أصيب بصدمة نتيجة ما قيل عن فشل أسلحته في مقاومة أسلحة الغرب؛ ف الميراج الفرنسية والسكاي هوك والفانتوم الأمريكية أطاحت بالميغ 21 ودبابات الغرب "باتون وشيرمان " تفوقت على ال ت 55
. وباختصار شديد، فقد تقاطعت مصالح جميع الدول على وقف تلك الإمبراطورية الناشئة التي باتت تسيطر على أهم ممرات بحرية في العالم وتهدد دولا تزود العالم بأكثر من 80 بالمائة من احتياجاتها للطاقة…
لذا صار من الملاحظ تساهل معظم الدول العربية التقدمية منها والرجعية لحركة تنقل المتطوعين في العمل الفدائي الناشئ ومقره الرئيس الأراضي السورية؛ ومن دمشق، صار يتفرع نحو جبهة الأردن ومن ثم جبهة لبنان.

وعلى طريق دمشق، وأيضا خلسة ، وتسلل، انطلق عصمت مع عبدالله، الرفيق والصديق وعبرا الحدود اللبنانية السورية لجهة ما أشار سائق التاكسي عند المساء لمكان ما من البقاع الغربي، وأشار لهما نحو الاتجاه الشرقي الشمالي وقال: " لا تضيعا نجم الشمال، دعوه دائما إلى يساركم ولن تضلوا "
مُرًّا ببلدة ينطا ومنها انحدرا نحو الجانب
الآخرة من الحدود… ولم يعرفا أنهما قد أصبحا
في الأراضي السورية إلا في صباح ذلك اليوم التموزي الباكر.

من المفترض، أن قوات الأمن لأي بلد تلقي القبض على من يحاول دخول أراضيها خلسة، أو ترده من حيث أتى؛ لكن سيارة الجيش التي أوقفها سائقها وفيها أربعة جنود، قد حملت عصمت ورفيقه بمجرد أن قالا صراحة: "نريد الالتحاق بمعسكر الفدائيين" نزلا من الشاحنة في ساحة الأمويين ومنها إلى وسط المدينة التي يزورها عصمت لأول مرة وكان في غاية الحذر .
"غريبة!" همس في أذن صديقه
"أين رجال المخابرات؟ وهل يعرفون
بأننا غرباء هنا، إسمع، إن اعترضنا أحدهم لا تتكلم أنت بل أنا؛ سأقول إن والدي عميا للمخابرات السورية منذ العام 1948!
ولكن مهلا ، ماذا لو كانوا يعرفون أنه كان يشتم رؤساء سوريا بعد الانفصال، مأمون الكزبري وأبناء العظم بشير وخالد وصلاح الدين البيطار، وليس آخرهم أمين الحافظ" صديق الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين؟! " كما قالت اذاعة صوت العرب ذات مساء. "
على أي حال سيكتشف عصمت في المستقبل أن دمشق اكتسبت سمعتها تلك بعد الانفصال عن دولة الوحدة وأكتشف مع مرور الوقت بأنها كانت هي المكشوفة لكل جواسيس العالم؛ بعضهم نزل في المطارات، وبعضهم عن طريق البر من تركيا والعراق والأردن ولبنان، ومنهم من اتى خِلسه من نفس الحدود المذكورة كما فعل عصمت وصديقه ؛ والجميع قد جاؤوا الى دمشق لكونها" قلب العروبه النابض " الساحة الوحيدة التي كانت على امتداد الأرض العربية تستقبل المقاومين وهي عاصمة المقاومة بلا منازع برضى حكامها ،ف الحكم البعثي الذي انتفض على قيادته في 23 شباط 1966 كان يعمل على ان تكون دمشق " هانوي "الشرق ؛ لقد كان ذلك حلم جميع ثوار العالم... الأطباء الثلاثة الذين يديرون الدولة : إبراهيم ماخوس، يوسف زعين، نور الدين الأتاسي كانوا من قبل ثوارا في جبال الجزائر، يقاتلون الاستعمار الفرنسي ويقدمون خدماتهم الطبية إلى شعب الجزائر في المناطق التي يتم تحريرها؛وليس غريبا أن كتبت صحيفة لوموند الفرنسية عنوانا مثيرا اوائل العام 68 قالت :
" سوريا يحكمها أطباء؟ لا بد أنها مريضة "
أطباء ثلاث وخلفهم ضباطا ثوريون ابرزهم كان صلاح جديد حافظ الأسد سليم حاطوم ومحمد عمران.
هذه الصورة لدمشق كما رآها عصمت وعرفها عندما التحق بالتنظيم المرعي والمدلل (فتح) الأسم الذي عرّفهم إليه " سمسار " حال بين عصمت ورفيقه التطوع في جيش التحرير الفلسطيني. أخذهم بسيارته الخاصة إلى منطقة " الهامة "وهي قرية تقع في شمال الغوطة الغربية لدمشق وهناك يمر بها نهر بردى ومنها ينشق الفرع الأول من فروعه السبعة.. وكانت بساتينها الغناء في كتف جبل مرتفع فوق بردى أولى قواعد الفدائيين، وعصمت قد نام أول ليلة هناك في العراء، وقطرات الندى قد بللت جبينه بعد منتصف ليلة كان فيها القمر بجماله الأثيري ونوره الفضي ووهجه الغامض يطل من بين التلال ، ويعبر بين أوراق الحور في سماء الليل الطويل، وذاك السكون الذي يتخلله صوت خرير المياه البديع وشخير العشرات من الأشخاص المتعبين عابري الحدود من الجهات الأربع إلى هذا المكان الفسيح ،وكأنه جنة الله الموعودة.
كان مزاجه يتغير بين لحظة ولحظة، فهو يفكر في تلك الجميلة التي أبكته معها في لحظة الوداع ، ويفكر في شريط الذكريات المليء بالأحداث والقصص .. عشرين عاما من الهجرة والعذاب، فلماذا انتظرنا كل هذه السنين لحشد القوى
من أجل تحرير الأرض التي اتسعت مناطقها المحتلة ؟!
اقترب عصمت من صديقه الذي كان يشعل سيجارة بعد الأخرى وأخذ يروي لصديقه عبدالله روايته منذ تلك الليلة التي سقطت فيها حيفا
حتى تلك الساعة التي صرخ فيها أحد الأشخاص
صباحا : من اقدركم على حمل الفأس؟
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رأفت العزي
Admin
رأفت العزي


عدد المساهمات : 75
تاريخ التسجيل : 31/10/2013

واقع يلفه الحلم  Empty
مُساهمةموضوع: رد: واقع يلفه الحلم    واقع يلفه الحلم  Emptyالسبت مارس 11, 2023 1:00 am

-23-
(( الهجرة إلى حيفا ))

" رَفَعَتُ يَدِي لِرَبِّ اَلسَّمَاءِ
بَكَيْتُ وَأُجْرِيَتْ دَمْع اَلرَّجَاءِ
بِأَنْ يَجْعَلَ اَللَّهُ كُل فَضَائِي
وَعُمْرِي وَرُوحِي رُؤَايَ هَوَائِيّ
زَمَانًا مِنْ اَلْحُبِّ دُونَ اِنْطِفَاءِ "
طَلْعَتْ سَقِيرقْ
قال عصمت:
ولد أبي في العقد الثاني من القرن العشرين في مدينة حيفا عن أب فلاح  هاجر والده  من بلدة أم  الفحم  التي تبعد عن حيفا أقل من خمسين كلم  إثر خلاف مع عشيرته  في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهناك، وبعيدا عن قلب المدينة  في منطقة  كانت تسمى  "الحواكير"(جمع حاكورة) وهي مجموعة أراضي   "بور" كانت السلطة العثمانية  تفرزها وتوكل للبلديات بيعها أو منحها بشروط أهمها  زراعة الأرض بالأشجار أو الخضار"
اشترى جده "أحمد"   مثل كثير من الفلاحين    الذين  سكنوا المدن، قطعة من تلك الأراضي الواقعة على  الخليج الحيفاوي  شمالي المدينة  واستقر هناك مع زوجته  وأبناءه الثلاثة غرق أحدهم في البحر ومات،   وغادر الكبير عائدا إلى أم الفحم  وبقي عبد الله مع والده  يكد ويعمل معه في استصلاح الأرض،  أحاطوا الجهة الغربي والشمالية بأشجار الحور  سريعة النمو،   وبعض الأشجار المتفرقة  كتينة هنا وزيتونة  هناك، شجرة ليمون هنا وبرتقالة هناك،  وعمروا غرفة ساذجة  تستخدم لكل شيء،   حفروا بئر مياه بأيديهم  على عدة أمتار فقط  وزرعوا الحشائش كما يفعل معظم فلاحو فلسطين...   ولما تزوج  جدي، قال عصمت، قاموا بإضافة غرفة جديدة  واحضرت العروس  "مسعدة" جدته  نصبات كرمة من قريتها وقامت بزراعتها في طرف من أطراف تلك الأرض؛ وأخبرت جده في أحد الأيام  انها  تتوحم في حملها على أكواز من الصبّار  فزرع في جانب آخر من الأرض ألواحا من أجوده.  
ولدت  مسعدة  اربعة من الذكور: محمود ومصطفى محمد وإبراهيم وبنتان  فاطمة  وآمنة وأخذ البحر مجددا  الأبن الثاني  مصطفى  ومات.  
وعمل الجد على توسيع داره  ثم خطرت  له فكرة  إنشاء ديوان للضيوف  كان أولهم وفدا كبيرا من عشيرته أتوا لتعزيته بوفاة والده وتصدى لهم عندما  أتوا على سيرة المتوفى  وأنه كان  من وجهة نظرهم مخطئا عندما ترك بلدته وكان عزيزا فيها، ليموت هنا غريبا،  وحيدا؟! فكان الجد قاسيا في الدفاع عن والده وقطع الوصل فيما بينهم على الرغم من إغراءه بميراث أبيه في بلدته أم الفحم .  

مثل  معظم  أبناء فلسطين ترعرع  أبناء عبدالله وكبروا في ظل الصراع القائم بين العرب والصهاينة  وفي ظل احتلال اجنبي مقيت بعد انهيار السلطنة العثمانية واحتلال بريطانيا  صاحبة مشروع  إنشاء كيان صهيوني على أرض فلسطين  
وحيفا مدينة  كانت  تختلف عن معظم مدن فلسطين،   بل وتختلف عن معظم المدن العربية القائمة على البحر المتوسط.
وصفها أحد أبناءها " الشيخ عبد الرحمن مراد"
في كتيب صغير قال :
"  قد حبتها الطبيعة بجمال فريد أخاذ، مع سماء صافية وبحر هادئ وأكسبها جبل الكرمل طابعها المميز من مناظر جميلة ومناخ معتدل لطيف ... ومن على سفح هذا الجبل يغرق البصر في مشهد رائع ومنظر جميل . فالمدينة مستلقية متلألئة في منحدرات الجبل وعلى شاطئ البحر ، ونهر " المقطّع " يخترق مرج ابن عامر
ويصب في البحر شمال المدينة في موقع قريب منها .. وخليج عكا الواسع ومدينة عكا العريقة في التاريخ يبدوان لناظريك وقد لفهما بعبقه وأريجه "

هذا التميز الجمالي للمدينة ذات الموقع الإستراتيجي
دفع العديد من الجاليات الأجنبية ومنذ العهد العثماني إلى حب السكن وحب الاستملاك فيها لأسباب سياسية أو اقتصادية .. وكانت اولى الجاليات الأجنبية التي أمتها تلك الجالية الألمانية القادمة من مدينة " نورمبرغ " في العام
1868 وأقامت فيها حيا خاصا يعرفه أبناء
المدينة وسمي بالحي " الألماني "ذات المباني الأنيقة الغربية الطراز حيث عملت تلك الجالية في تأسيس بعض مزارع كروم العنب الحيفاوي الممتاز والذي يعتبر من أجود الأعناب ، وفي العام 1898 زار المدينة إمبراطور ألمانيا " غليوم الثاني " مع زوجته وهو في طريق الحج إلى القدس … ونتيجة للعلاقات المميزة التي كانت تربط السلطنة العثمانية بألمانيا استعدادا لتلك الزيارة قامت السلطات
التركية ببناء رصيف جديد على الشاطئ ليرسو اليخت الإمبراطوري كما تم فتح بعض الطرقات لعربات الخيل خاصة ما بين حيفا ويافا وأعيد
ترميم الجسور استعدادا لتلك الزيارة العتيد.
وحيفا مدينة كانت عامرة توارد إليها الناس من
مختلف المناطق الداخلية ومن خارج فلسطين
حيث يبدأ تاريخها الحديث " من اليوم الذي
تحرك فيه قطار الحجاز في سنة 1905 عندما ربطها بدمشق والحجاز " وكذلك ربطها ببيروت وطرابلس الشام ونمت اقتصاديا عندما افتتح " خط أنابيب كركوك- حيفا " وصب فيها الزيت لأول مرة في مستودعاتها و بدأت معامل التكرير في " مصفاتها " في العمل لتزود الشرقين الأدنى والأوسط عام1933
وتم تدشين ميناءها الحديث
في نفس العام ليكون ثاني ميناء على البحر المتوسط بعد ميناء مرسيليا
الفرنسي ، حتى أصبح الشريان الحيوي لفلسطين والأردن وسوريا والعراق وإيران وغيرها من البلدان الأسيوية  " فإذا أضيف إلى هذه الأعمال ما كان فيها من مصانع الأسمنت وصناعة السجائر والغزل والنسيج تبين لنا قوة الجذب إليها من العمال العرب من مصر وبلاد الشام  واستقدم إليها" التاجر الشامي الدمشقي الذي نجح نجاحا باهرا في مزاحمة التجار اليهود "
(كان شعار التاجر اليهودي يقول " اربح قليلا تبيع كثيرا" أما الشامي فيقول :" اشتري بقرش وبيع بقرش والربح بينهما")

و كانت حيفا مركز العمل والعمال
فيها تبلورت حركتهم التقدمية فأنشئوا جمعية منظمة " للعمال " وصناديق توفير وجمعيات تعاونية ضمت أصحاب المهن في البلاد ..

وحيفا كانت تعيش كما يشهد أبنائها وحدة إنسانية توحد بين مواطنيها العرب
مسلمين ومسيحيين ، وأحد مظاهر تلك الوحدة هو الاحتفالات بعيد مار الياس
يشترك فيه الحيفاويون في يوم واحد فالمسلم في " زاوية " الخضر والمسيحي في زاوية أخرى يتبادلون التهاني على سفوح جبل الكرمل الشامخ .
وحيفا مدينة الثقافة والعلوم في فلسطين حيث يزول العجب عندما نعلم ان الصحف والمجلات الصادرة فيها لا تعد ولا تحصى .. وعلى سبيل المثال :
لقد كانت تصدر فيها حوالي الأربعين صحيفة يومية ما بين سنة 1908- 1948 غير عدد المجلات الثقافية والاجتماعية .. ! وكان عدد الجمعيات والنوادي فيها واحد وعشرون ناديا وجمعية عربية عدا ما كان يملكه اليهود من جمعيات وما  كان يصدره من صحف ! ووصل عدد المدارس فيها إلى 33 مدرسة حتى العام 1933 حيث عمدت الحكومة البريطانية إلى الحد منها حيث أنها لم تزد عن ثلاثة مدارس خلال عشر سنوات التالية .

إن هذا أهلّها لتلعب دورا نضاليا وسياسيا
رائدا ضد الاحتلال والحركة الصهيونية
" وفي هذا الجو المزدهر وحركة العمال استطاع الشهيد عز الدين القسام ان يقوم بعمل لم يكن بالحسبان .. فعندما قدم من جبلة إلى حيفا متخفيا  هاربا من بطش الاحتلال الفرنسي  الذي كان يلاحقه، قام بالاتصال بدوائر الأوقاف في حيفا فعرفوه وهو الذي ينحدر من عائلة مناضلة فيها من العلماء ما شاع صيتهم إلى حيفا .. وهناك عُين خطيبا في جامع الإستقلال المسجد الأقرب الى منزل جد عصمت وديوانه،  فتعرف على الشيخ الجليل بعدها صار الشيخ يقضي معظم أوقاته  في المسجد والديوان، فتعلق الأبن الأكبر محمود بشيخه وتطوع بأن جمع له عددا من عمال ميناء حيفا القريب ، وصار الشيخ يلقي عليهم دروس الجهاد . وفي سنة 1934 قال له عامل بسيط بعد ان سمع منه درس الجهاد : " هل سمع سيدنا عن الأسلحة التي كان يهربها اليهود ؟"

ومنذ ذاك التاريخ، " اختفى الشيخ الجليل "والذي اكتشف أمره بعد سنة يحمل السلاح في غابات بلدة " يعبد" قضاء مدينة جنين يدرب مجموعة من المجاهدين على القتال فطوقتهم قوات الاحتلال البريطاني واستشهد مع أربعة من رفاقه وجرح عدد آخر واستطاع بعضهم النفاذ ومواصلة القتال منهم  محمود  ابن عبدالله الأحمد  عمّ  عصمت .  كان ذلك في العشرين من تشرين الثاني \ نوفمبر 1935\ حيث كانت تلك هي الشرارة والمهماز لثورة شعب فلسطين لمدة ثلاث سنوات 1936-1939.
 على أثرها قامت قوات الاحتلال البريطاني بتخريب بيت الجد،  فرموا كل مونة البيت من الحبوب والزيت  وحَرقت مضافته واقتلعت  بعض الأشجار وقطعت فروع البعض الآخر  منها واعتقلوا ولده محمد  ذو السادسة
عشر من  عمره بتهمة المقاومة  وبعد محاكمات صورية  حكم عليه بالإعدام حضوريا وعلى محمود  المتخفي نفس الحكم غيابيا فعمل الجد على إنقاذ ولده بشتى الطرق ونصحوه بمحام لبناني من آل أبو فاضل فنجح في إثبات أن والد عصمت لم يتجاوز الثامنة عشر ليسقط عنه حكم الاعدام حسب القانون البريطاني وخفض الحكم  الى السجن المؤبد.  بعد جلسات عدة قضى منهم 3 سنوات وأفرج عنه وعن كثيرين غيره لأسباب سياسية تتعلق بما سمي وقتها " بالكتاب الأبيض " الذي أصدرته بريطانيا بعد قضائها على ثورة عام 1936-1939 .. و انفجار الحرب العالمية الثانية ومحاولتهم استمالة العرب الى جانبهم والذين صدقوا اكاذيب المستعمر مرة اخرى...  في هذا الوقت، كان الأمر قد حُسم في فلسطين لصالح الصهاينة؛ وما أخّر اليهود  إعلان قيام" الكيان" عشر سنوات سوى انتظارهم اللحظة المناسبة ليكتسبوا له الشرعية من معظم دول العالم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
واقع يلفه الحلم
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأثير- atheer :: مختارات أدبية :: الرواية-
انتقل الى: