الأثير- atheer
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
الأثير- atheer

ثقافي، تاريخي، سياسي، أدبي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  
بوابة العقل القلب مفتاحه الكلمة الطيبة
بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
سحابة الكلمات الدلالية
المواضيع الأخيرة
» القلعة البرية البحرية
القلعة  البرية البحرية  Emptyالسبت يوليو 15, 2023 1:44 am من طرف رأفت العزي

» واقع يلفه الحلم
القلعة  البرية البحرية  Emptyالسبت مارس 11, 2023 1:00 am من طرف رأفت العزي

» (( لا تحيا إلا بالعناق))
القلعة  البرية البحرية  Emptyالثلاثاء أغسطس 16, 2022 10:02 pm من طرف رأفت العزي

» لا أعرف ماذا يكون !
القلعة  البرية البحرية  Emptyالخميس مايو 05, 2022 5:29 am من طرف رأفت العزي

» (( أنا والليل ))
القلعة  البرية البحرية  Emptyالإثنين نوفمبر 29, 2021 1:33 am من طرف رأفت العزي

» غواية فلسفية...!
القلعة  البرية البحرية  Emptyالأربعاء يونيو 10, 2020 1:16 am من طرف رأفت العزي

» شكر لديوان الأدب
القلعة  البرية البحرية  Emptyالأربعاء يونيو 10, 2020 12:57 am من طرف رأفت العزي

» الكتاب والحرية
القلعة  البرية البحرية  Emptyالثلاثاء يونيو 02, 2020 10:04 pm من طرف رأفت العزي

»  فلسطين من البحر إلى النهر
القلعة  البرية البحرية  Emptyالسبت يناير 05, 2019 3:22 pm من طرف رأفت العزي


 

 القلعة البرية البحرية

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
رأفت العزي
Admin
رأفت العزي


عدد المساهمات : 75
تاريخ التسجيل : 31/10/2013

القلعة  البرية البحرية  Empty
مُساهمةموضوع: القلعة البرية البحرية    القلعة  البرية البحرية  Emptyالسبت يوليو 15, 2023 1:44 am

هذا البناء الذي رمى "عصمت" نفسه فيه، مؤلف من طبقتين، مربع الشكل، تتوسطه ساحة سقفها السماء، بُنيّ منذ حوالي مائتي عام تقريبا.. وكان "خاناً " مثل خانات المدن الكبيرة في العهد العثماني. الطابق الأرضي منه يضم مجموعة من الغرف الكبيرة الواسعة، سقفها يعلو لستة أمتار تقريبا وكانت بمثابة مخازن للغلال، ومأوى للجِمال والبغال التي تنقل بضائع التجار. ساحته الداخلية بمساحة ستمائة متر م تقريبا، وهي المساحة التي من المفترض أن تكون خالية ولكن كان قد أقيم عليها معمل للسكاكر. ومحل بدائي للنجارة لصنع الصناديق الخشبية والحاويات اللازمة لتخزين البضائع. أما الطابق الأعلى  يضم عددا من الغرف  تستخدم للنوم والإقامة. كان البناء يخدم التجار الذين يأتون من مدن وبلدات الجوار لشراء وبيع السلع..
الممرات جميلة وتُطل منها على ساحة الخان عبر قناطر أموية بنيت من أحجار رملية ضخمة.. كل ضلع من أضلاع ذلك المربع يحتوي على عدد من الغرف مساوية لبعضها تقريبا وتقابل بعضها البعض.
مُلاّك هذا الخان كانوا قد أجّروا غرفه كبيوت تسكنها بعض العائلات، وكل عائلة تشغل غرفة واحدة أو غرفتين. !
وها هو عصمت ، كان في ذلك الصباح، يقف مكتوف اليدين بعدما شقّ الباب وأبهج غرفته بالنور وأخذ يجول بنظره في الجوار كما يفعل المتلصصون . فلاحظ وجود أشياء كثيرة في ممرات الأروقة.. بعض حبال الغسيل تنتشر بكثرة أمام أبواب البيوت، قصبات صيد مركونة في بعض الزوايا، بعضها معلق بشكل أفقي بين أعمدة القناطر، دراجة هوائية مشدودة للجدار بجنزير. براميل حديدية مليئة بالمياه في أدنى جزء منها حنفية صغيرة.. والبراميل موزعة بالتساوي في رواقين متقابلين، ترتفع عن الأرض وتعلو فوق حافة المتكئ المطلّ على الساحة.

وجد عصمت نفسه متفاجئًا من الأشياء التي كانت ملقاة في الممرات  بالنسبة له كانت هذه تجربة جديدة  لأنه في السابق كان يتجنب التفكير في أي شيء خارج نطاق حياته الروتينية. ومع ذلك، أدرك  أن الأمور التي تعتبرها تافهة هي في الواقع أمور هامة للغاية للآخرين، قرر أن يكون  حذرًا في المستقبل ويحرص على الاهتمام بهذا المحيط .
بعد قليل، شاهد رجلا يتجه احد براميل المياه ، بدا أول الأمر بكامل أناقته، يرتدي قميصا عسكريا وربطة عنق جميلة، وعندما تقدم تبين أن نصفه الأسفل ما زال في لباس النوم.. تنحنح بصوت عال عدة مرات، ثم بدأ يغتسل .. تبعه رجل آخر بدين وفعل مثله دون أن يتحدثا معاً، فلاحظ عصمت أن لا نصيب له في هذا الجانب من الخدمات، لكنه عرف بعد قليل أين، ودون سؤال.
كلما تقدم الوقت، كانت الحركة تزداد وترتفع الضوضاء من كل جانب.. صوت امرأة تصرخ كل بضع دقائق على ولدها المتأخر عن عمله،
امرأة أخرى تدعو بعض الجارات بصوت عال لتشاركنها القهوة.. وأخرى وضعت حلة كبير امام باب بيتها و "طشت" * الغسيل … وإلى جانبها أكوام الثياب، وتنكة مياه على بابور الكاز .
كان عصمت يرى ثلاثة أروقة أمامه بشكل واضح، انسحب خلف شقوق الباب بعدما شاهد أن معظم الأبواب صارت مفتوحة تماما . وفي إحدى الغرف المقابلة، واحدة من النسوة وضعت عيونه في موضع اشتباه..! لقد كان يرى ظهر تلك المرأة، وهي راكعة تنحني وتتمايل.. تكرر ذلك دون توقف فضرب على رأسه وتذكر جيدا كيف كانت تفعل والدته عندما كانت يديها تغطس في جبلة الطحين وتعجنه بقوة ساعديها وإرادتها وتمنى ساعتها، لو استطاع مساعدتها كما كان يفعل في بيت أبيه.. فمن أدرى منه بتعب العجن والرقّ حينما كانت والدته تعجن اكثر من سبعين رغيفا كل يومين، وكان يساعدها بكوبجة العجين ورقّ الأرغفة.

التفت نحو مكان ابعد، فشاهد طالب وطالبة في سنٍ يافعة يُذاكران باكراً وقبل موعد ذهابها إلى المدرسة على وقع صوت الرجل الذي لم يتوقف عن السعال طوال الليل.. البنت تراوح في المكان والصبي كان يقطع المسافة ذهابا وإيابا على مدى رواقين ولكن تقدم نحو الرواق الثالث بعدما رأى باب الغرفة المهجور مفتوح بابها فتقدم نحوه ورمق عصمت بنظرة مستطلع وكان يبدو جريئا وقويا ومهذبا ، توقف في مواجهة عصمت والقى عليه تحية الصباح بالفرنسي  " بونجور " ثم ذهب نحو الفتاة حادثها ودخلا منزلهما  دون أن يغلقا الباب  حيث أطلت منه فتاة بدت لأول وهلة مختلفة في جمالها وقوامها، رمته بنظرة استعلاء ثم انسحبت إلى الداخل بهدوء.


(( يا بحرية هيلا…)

في ذلك الصباح الباكر ، وعلى بعد مئات الأمتار عن المبنى، كان صوت مراكب الصيادين يعلو كلما اقتربت من  الميناء الصغير، وكان صوت محركاتها العاملة على الديزل تبقبق فوق الماء برتابة وانتظام  " بق بق بق بق"وتستنفر المنتظرين من الناس الواقفين على الرصيف  بقدومها ، أولئك الأشخاص "الذواقة" المحبين شراء السمك الطازج، والهواة المحبين حضور هذا المهرجان الصغير والجميل عند كل صباح .. وكان عصمت في أوقات فراغه يذهب باكرا  ليتمتع نفسه بمشاهدة السمك بالوانه واحجامه المختلفة  .. وما أن تتوقف المراكب حتى يسارع الجمع المحتشد جيئة وذهابا، ويسدون طريق الصيادين ويغزون بأعينهم سلالهم وما يحملون. إن راق لهم ما أرادوا، تبعوا الصياد إلى قاعة المزاد العلني. فهناك من يديره من المتخصصين الموثوقين من الطرفين : الصيادون والمشترون، ومنهم تجّار الجملة الباعة المتجولون، أو المنافسين بشدّة لألئك الفقراء أصحاب المطاعم المشهورة.
كان عصمت يعرف كل تفصيل مع انه كان يقف هناك، عند باب غرفته، فهو يعرف أصوات السماسرة حينما يُعزف لحن التسويق والتشويق بحرارة في قاعة المزاد العلني .. ف " ميرة " السمك لا تبعد إلا أمتار قليلة عن بوابة المبنى، حيث كان عصمت يتوقف كثيرا عندما يأتي إلى ذلك المكان، ويشارك الجموع في ذلك المسرح الحيّ، وكان مثل الكثيرين يشعر بالفرح والحبور وهو يشاهد الصيادين وهم يحملون ما غنموا من أسماك، يقفون حتى يأتي دور أحدهم، فيضع أسماكه على البلاط المخصص ويقوم العم أبو حسن بنبشها وفردها أو تعريبها حسب طبيعة الزبائن - وهو الخبير- ثم يلعلع صوته بلهجته الصيداوي المحبوبة : " يلا يا شباب.. إبن الحلال يفتح المزاد. وهوول يا اخوان . هوول، ب ثلاث ليرات " ثم يأتي من يزوّد : " أربعة. ستة ليرات. ثماني." هنا. ما عليك إلا أن تتوقف وتنظر في وجه الصياد المتوتر، وهو ينفث دخان سيجارته بعصبية ، وعيونه الغائرة تتابع أصوات المزايدين برجاءٍ أن تعلو قيمة " الشروة" دون أن ينطق بكلمة واحدة، فتحتار من قوة صبره رغم غليانه..!
عليك هنا، أن تفكر في تلك اللحظات، في ساعات الليل الطويلة التي قضاها ذلك الصياد مثابرا على الصبر؟ يقاوم النعاس والبرد، يجلس على حافة زورقه الصغير طويلا دون حِراك ، و إلى جانبه فانوس مضيء؛ يصبر، ويصبر، يتحسس خيوط الصيد مراراً .. يساوره الأمل في اهتزاز كل خيط بصيد ثمين، فتعرف في الحال من خلال قراءة قسماته ، ماذا جنى وكيف كانت غلّته من الصيد ! فهو لا يستطيع تقدير ثمنه .. الذي يفعل ذلك هو السمسار . تعبه جهده يقدِّره الآخرون . تلك المشقة رهن بمزاج العرض والطلب .. ودائما هو الخاسر! هل عرفتم صياد سمك يعيش في " بحبوحة "؟!
حياتهم مليئة بالتحديات. تنتظرهم ليالي طويلة في البحر، يتعرضون خلالها لخطر العواصف والأمواج العاتية. يتعاملون مع قلة النوم والتعب الجسدي، ولكنهم لا ييأسون ولا يستسلمون.
فالصيد هو مصدر رزقهم، ومنحهم الحرية والاستقلال. وبالرغم من كل الشقاء إلا إنهم يعشقون البحر وأصواته المذهلة والجميلة، ولحظات الشروق الساحرة التي لا يمكن تجربها في أي مكان آخر. وقد تعلموا من خلال سنوات عديدة ويعرفون أماكن صيدهم المفضلة وأفضل الطرق لإلقاء الشباك والسنانير.
في النهاية، فإن الصيادون هم رمز للثبات والشجاعة والتحمل المادي والنفسي. إنهم يواجهون صعوبات كبيرة ويعملون بجد لضمان بقائهم واستمرارية عملهم. ف الصيادون لا ينامون في معظم الليالي ، ومعظم النهار يقومون بصيانة أدواتهم ، تخييط شباكهم الممزقة ، إفراغ مراكبهم مما تسرب إلى داخلها من مياه؛ تحضير الطعوم، وتجهيز صنارات الصيد ، يختبرون أشرعة مراكبهم العتيقة، يتفقدون وقود المحركات؛ وفي ساعات قيلولتهم يستمعون إلي نشرات الطقس وحركة الرياح وأخبار المدينة ، كل هذا، ينبؤك لتعرف إن  تفرست عندئذ في وجه الصياد وهو يقف صامتا أمام المنادي والشاري  ؛  لربما، ربما تعرف معنى الكدح والتعب الذي يشعر به الصيادون عندما ترسو البيعة على من يدفع السعر الأعلى. حينها يدسّون المبلغ في جيوبهم ويمضون ما علق في حناجرهم من غصة ويمضون إلى شقاء أيام قادمة، ماطرة ربما، لا يرجون فيها إلا عدل السماء وكرم البحر .
كان عصمت يعرف كل هذا ولم يصطد سمكة واحدة في حياته بالرغم من عشقه للبحر الذي  يبعد سوى عشرة خطوات عن بوابة ذلك المجمع و لا يفصله سوى مبنى " الجمارك " المستطيل، والضيق المساحة، والذي كانت أمواج البحر تلاطمه ليل نهار. وبالقرب منه، مقهى يتفرع عنه "سقالة" خشبية تمتد فوق الماء لأمتار قليلة، قائمة على عدد من الأعمدة مزروعة في قعر البحر.. لها عشاقها الذين يسعدون وهم يرتشفون قهوتهم فوق الموج حيث يسافر خيالهم مع كل موجة عند كل صباح  يحلمون بالسفر .


الفصل الثاني

((عندما يجتمع الفقراء))

قال عصمت:
- لم  أتوقف هنا أمام باب الغرفة إلا لأصف
المكان من الداخل وما حوله من الخارج
لأن منعطفا هاماً هو من أخطر، وأهم المنعطفات التي مررّت فيها على الإطلاق ،
فهناك تبلور مستقبلي، وكان لي تاريخ جديد.
فسكان هذا المجمع السكني  ونسميه
" خان البحر ". غالبية سكانه ، من أماكن مختلف مسلمين ومسيحيين ويهود، لبنانيون
و فلسطينيون ، ابناء مدينة وفلاحون، منهم الفلاح الذي  انحدر من مناطق ريفية مختلفة / من القرى المجاورة للمدينة.. أولئك الفقراء، الذين رغم انتمائهم لمجتمع ريفي، إلا انهم لا يملكون أراض زراعية واسعة، بل مساحات صغيرة ضيقة ورثوها عن أجدادهم، معظم نُصُبها أشجار زيتون، بالكاد تكفى عائلاتكم مؤونة العام .. وهناك بعض أشجار التين واللوز والتوت وغرسات الكرمة، وبعض مساحات صغيرة يزرعون فيها بعض الحبوب كالفول أو الشعير أو القمح في غالب السنين؛ وحينما نزحوا الى المدينة، كان معظمهم بلا عمل، فاتجه البعض القليل منهم نحو تعلم واحدة من المهن، مثل النجارة والحدادة والدهان وصناعة البلاط وغير ذلك .. وبعضهم اتجه نحو قطاع الخدمات، حيث برع العديد منهم في إدارة الفنادق والمطاعم والملاهي والحانات المختلفة. وعندما كبر أبناءهم، توسطوا من أجل إلحاقهم بوظائف الدولة خصوصا في السلك العسكري ، الجيش والدرك والأمن العام والجمارك وبعض دوائر المدنية واعتلى البعض منهم مراكز وظيفية عالية وقلنا كان أهل المدينة يرغبون في ذلك  فمثلا كنت ترى قرية صغيرة تعداد سكانها لا يتجاوزون الثلاثة آلاف نسمة فيهم عشرة او أكثر برتب عالية غير المؤهلين والأفراد، في حين انك لا تجد مدينة تعداد سكانها أكثر من 50 ألف نسمة ولا تجد سوى  شخص او او اثنان يحملون رتبا متوسطة.

ولو اردت التعرف على السكان أكثر،
سوف تجد أغلبيتهم من المسيحيين، عائلتين من اليهود، عائلتين مسلمتين من سكان المدينة، عائلتين فلسطينيتين منهم السيدة " أم حسني" صاحبة الغرفة التي سكنتها "
ويستطرد عصمت : لو كنت هناك وعاشرتهم، سوف تجدهم من أولئك الناس الطيبين، المسالمين، برغم انتمائهم الديني المختلف إلا أن بيوتهم مشرعة الأبواب دائما، وجميع ابنائهم ولدوا وكبروا وكانوا يعتقدون ان كل البيوت بيوتهم. لقد تعودوا منذ صغرهم على أن يكونوا في كل البيوت، فلا ابواب مقفلة في وجوههم، يدخلونها ساعة يشاؤون.. فهذه الام ترضع ابن جارتها، وتلك تطعم ابناء جارة أخرى، وفي غياب إحداهن، يتسابقن لرعاية أبنائها ويتخمونهم بالطعام. وعند ولادة إحداهن يقمنّ بمساعدة "النفاس" او تلك التي المّ بها مرض كأنها فرد من عائلاتهم.
وعندما يحلُّ عيد من الأعياد يشاركون بعضهم البعض كأن العيد للجميع.. ف في الميلاد كنت ترى الزينة في بيوت المسلمين كما تراها عند أصحاب العيد ، في رمضان يحترم الجار جاره. المسيحي لا يأكل علنا ولا يدخن حرصا على مشاعر جيرانه، بل ويشاركون إخوانهم المسلمين في إعداد وتناول طعام الإفطار سويا . وبرغم أن العائلتين اليهوديتين تتوسطان عائلتين فلسطينيتين إلا أن هؤلاء كانوا يحترمون بعضهم، والجميع يشتم السياسة التي لا إرادة لهم في مساراتها.
وترى كبار السن من الرجال يجلسون في المساء كلٌ يحمل كتابه؛ كلٌ يبتهل إلى الله بطريقته، بحسب معتقده وإيمان، فترى المسيحي يردد مع صوت المنشد ترانيم ليلة الجمعة، وتسمع مسلم يردد بأعلى الصوت سورة مريم وكأنه يقول لجاره إن الدين يجمعنا وأنك لجار ولي حميم .
عائلات كانت تعيش بأمن وأمان، لا ينغص عيشهم شيء، ولا يفرق بينهم سوى الموت.

لكن عصمت، في ذلك الصباح، كان وحيدا، وغريبا، في هذا الحي الجميل بإستثناء طيف تلك الفتاة التي أحبّ وصديقه الذي غادر المكان منذ سنوات ثلاث ، كل ذلك قد ترك  أثرًا من الحزن في قلبه ولا يدري ماذا يخبئ القدر



-8-
عندما تشعر الجيوش بهزيمتها، تترك الساحات المفتوحة وتحتمي خلف القلاع.
((القلعة))
اقفل باب غرفته وحمل نفسه واتجه نحو السلالم ماراً أمام جميع البيوت المشرعة أبوابها بخطى سريعة. يُلقى التحية على من صدف وجودهم في الطريق بارتباك.. نزل السلم كل درجتين ثلاثة درجات دفعة واحدة حتى كاد يتعثر على واحدة منها حينما انزلقت رجله !
توجه مباشرة وبلا تفكير نحو المكان الذي كان يستهويه؛ القلعة البحرية. كان يحب الجلوس هناك منذ سنين طويلة وكلما أتيحت له الفرصة، صيف شتاء.
كانت القلعة شبه مهجورة، مهملة، ومعزولة، وسكان المدينة لا يهتمون كثيرا بها، لأنهم تعودوا على رؤيتها منذ ولادتهم،ومعظمهم لا يعرف تاريخها.. من هم بُناتها الأوائل، متى، ولماذا؟
لم يكن يدخلها سوى بعض السياح الأجانب، يلتقطون الصور التذكارية أمام بعض جدرانها المنهارة، و حجارتها الضخمة، ويجلسون على المدافع الحديدية المنصوبة او المركونة هنا وهناك ، أو تلك التي ما بين الحفر، لأخذ الصور ثم يغادرون.
أولئك السياح الذين يأتون وبيدهم بعض كتيبات صغيرة، و خرائط ورقية كدليل جغرافي الأمر الذي كان يترك عند بعض السكان ريبة وينظر البعض إليهم على أنهم من الجواسيس! ".
و للقلعة " حارس" فعلي، العم" ابو عدنان" رجلا طويل القامة عريض المنكبين له وجه دائري الشكل، عيونه واسعة وصوته رخيم سلس رغم أنك تعتقد أن في حلقه شيء عالق وهو يحدثك، وكان في غاية اللطف باستمرار .
يحب حكايات البحر ويرويها. يحب القلعة يعشقها . وعلى مدى سنوات ،
كان يروي لعصمت عن تاريخها حكايات كثيرة :
" بناها الفينيقيون ،واستخدمها الهكسوس عندما حكموا مصر.. وعند هزيمتهم استراح فيها تحتموس الثالث، ثم أعجبت الإسكندر، وأقام فيها عدّة اسابيع عندما حاصر صور. استثمرها الرومان ك ميناء ثم صارت حصنا للصليبيين " يروي أبو عدنان ذلك ويفصّل.


كان عصمت يستمع باندهاش إلى حكايات أبو عدنان عن تاريخ القلعة . كانت هذه المعلومات الجديدة تبثّ في داخله الحماس والفضول لمعرفة المزيد. طالما كانت الآثار تحمل قصصًا عريقة ومثيرة، ولأول مرة شعر عصمت بالرغبة في استكشاف هذا التاريخ وتعرف المزيد عن أصوله وكانت تلك القصص تبني ذاكرة عصمت وتحفزه لمعرفة التاريخ؛ سأله مرة : ماذا عن خبرية صيدا في كتب التاريخ، مع ملك الفرس حين حاصرها قالت صيدا : " النار ولا العار " هل بالفعل احرق السكان المدينة وأنفسهم أم هي أسطورة من نسج الخيال ؟!
"اسمع يا بني..
هذه المدينة كما أبناء كل هذا الساحل " الفينيقي" تعرضوا لغزوات كثيرة عبر التاريخ … من قدماء المصريين والآشوريون والبابليون والفرس والإغريق والرومان والعثمانيون و ليس أخيرا الفرنسيون. وإن جميع من مروا انتهوا، وانتهى وجودهم إلا في الكتب التي يؤلفها كتّابهم الذين يكتبون التاريخ كما يحلوا لهم؛ أما نحن، ابناء المنطقة، بقينا متجذرين هنا منذ آلاف السنين الأحجار تروي تاريخنا "
.
سأله عصمت عن حكاية السراديب الغارقة تحت الماء، والتي قيل انها تصل ما بين القلعتين البحرية والبرية؟

عدّل ابو عدنان من جلسته  وقال بحماس العالم  - " عمال الآثار قالوا إنهم وجدوا في الماضي تلك الطريق والأغرب أنهم وجدوا في الممرات رماحا طويلة،
يتعدى طول الواحد منها ستة أمتار! وسيوفا كانت ما تزال تلمع، وأن أنصالها قطعت شجرة سنديان عتيقة بضربة واحدة عندما جربوها!
و دروعا يعجز عن حمل الواحد
منها رجلين قويين ! ."

كلما كان عصمت يستمع لأحاديث ابو عدنان، يحدّق في وجهه، ليرى ملامحه جيدا، لمعان عينيه ، ذلك الشغف والخيال الواسع . لغته البسيطة المصحوبة بإشارات قد تبدو مضحكة لمن لا يعرف هذا الشخص عمّا يتحدث .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
القلعة البرية البحرية
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأثير- atheer :: مختارات أدبية-
انتقل الى: