الفصل الأول)
******* المتسلل *******
* انتظر حتى حلّ الظلام، وتأكد من أن كل البيوت أطفأت أنوارها اقترب من المكان بهدوء المتربص، وكان يحمل على ظهره كتلة كبيرة ملفوفة "ببطانية "أرهقته كثيرا. أعار السمع أذناه وتلفت يمنة ويسارا، ثم بدأ يصعد درجات سلم اسمنتي كان يبدو أن صانعه يتعدى طوله المترين .. الدرجة ترتفع عن أختها أكثر من ضعفي الأدراج المعروفة ! مع ذلك، امتطت قدماه الخمسة عشر درجة، بخطىً واسعة حتى استوى أمام أول رواق من أصل اربعة في ذلك المبنى الضخم. عَبَر أول باب تجاوزه للثاني، ثم ثالث، ثم انعطف يمينا حتى وصل إلى الباب الثامن.
توقف يسأل نفسه:
"هل أنا أمام الباب الصحيح؟ " كان ما زال يلهث، ويلتفت خلفه كهارب من شيء مشين؛ وحين سمع سعال رجل هرم، كاد يختنق لشدة اضطرابه؛ فهو لا يريد لأحد أن يراه في تلك الساعة المتأخرة من الليل كهارب أو مطرود؛ وبسرعة، اخرج من جيبه مفتاحا كبيرا، تحسس خرم الباب، ثم ادخله بحذر، ومن حسن حظه، فتحه بلا تعقيد.
تأبط حِمله ودخل غرفة يسكنها ظلام لم يعمل حسابه.. بحث عن عود ثقاب في جيبه، ثم تحسس أرضها بقدمية، أقفل عليه بابها، مدّ فرشته على الأرض، ووضع حذاءه تحت إحدى طرفيها كوسادة، واستلقى … ولشدة ما كان مرهقا، نام والدموع تبلل جفنيه .
لم يدري كم كانت الساعة، حينما فتح عيونه على خيوط الشمس وقد عبرت شقوق الباب الخشبي المتهالك، يحاذيه شباك متشقق، حاول فتحه.. لكن درفتيه كما بدا مثبتتين، فقام بشق الباب قليلا ليدخل منه الضوء الذي أول ما كشف، كشف عن جدران غرفة عفنة، تنتشر فيها كمائن العناكب، وأرضها يغطيها التراب، والكثير الكثير من الصراصير المقلوبة على ظهرها، مستسلمة لموتها. وفي إحدى الزوايا بعض مجلات قديمة متناثرة أوراقها هنا وهناك .. في منتصف الغرفة نصف إبريق من الفخار، وفي زاوية أخرى بدا نصفه الآخر قطعا مبعثرة، ويحاذي إحدى الجدران ستة حِزم كبيرة ، غلافها من الخَيْش ملقاة بغير ترتيب! تساءل: كيف سأقيم في هذه الغرفة؟! لا منافع فيها، لا مياه، لا كهرباء، وحتى لا يعرف أين سيقضي حاجته!
" على أي حال سيكون وضعي هنا أفضل فيما لو لم آتِ وبقيت هناك! " قال يواسي نفسه ثم توقف لا يعرف ماذا يفعل في ذلك الصباح الباكر ؛ كان يشعر بالحزن و الكآبة، والغضب؛ وتهيأ له، أن أثقال الدنيا كلها وهمومها، قد جثمت على صدره.. ف بالأمس كان معززا في بيت أبيه وكان كل شيء على ما يرام، يحظى بحب والدته واحترام إخوته البنات والصبيان،
فلماذا جرى الذي جرى؟!
تساءل بمرارة عاشق خائب: " هل يفعل الحب خرابا
ويحيد بالإنسان عن استقامته ؟!"