(( لا تحيا إلا بالعناق))
الفصل الأول
منذ صغرهما كانا لا يفوتهما حدثا إن كان مدرسيا أو أي نشاط آخر
إلا وشاركا في إحياءه والعمل بكل تفان ، ولا يُكلفان في أية مهمة
إلا وكانا يُنجزانها بكل همة ونشاط ؛ وفي مطلع شبابهما لم تفتهما
أي مناسبة إلا وكانا يقضيانها معا ،
أكانت المناسبة حفلة فنية ، ثقافية ، رياضية أو مهرجانا غنائيا
او سياسيا ودونما سؤال لمن، ومن.. طالما القائمين عليها جماعة
لا يسكنها الغرور او التطرف مهما كان شكله .
وكان لا يفوتهما القيام معا بإجازات استجمام قصيرة كانت ايامها
أم طويلة. ولا يفترقان إلا للضرورة وأحكامها.
هما رفقة طفولة وصبا؛ صديقان حميمان، كبُرا، وكبرت عائلتاهما،
وبرغم كل الظروف لم يفترقا إلا قسرا ؛ وكلما مرّ الزمن ،
وضاقت دائرة أصدقائهما المشتركين ازدادت بينهما المودة
المحبة ، وازداد بينهما حجم الذكريات التي صارت إرث حياتهما
المشترك وحيث يعترف الصديقان بأن أسعد لحظات حياتهما ،
حينما يجلسان معا، ينبشان الماضي بذكرياته المتراكمة عشرات السنين ..
حينما تسمعهم يتحدثان في تفاصيل صغيرة تضحك، قد تبدو
للآخرين تفاصيل تافهة، ولكنهما لا يهتمان طالما أشعرتهم
بسعادة غامرة لا توصف.
ما زالا على طبعيهما، لم يتغيرا منذ عشرات السنين ف" وليد "
غالبا يسأل وهو يعرف الجواب،
مع أن سؤاله مكرر آلاف المرات وغالبا ما يكون جواب "عدنان"
متوقعا مع ذلك :
- هل تأتي لتأخذني أم أمرّ أنا وننزل بسيارتي ؟!
- لا ، تعال خذني ، فأنا لا أرغب في القيادة ، وهذا ما تحبه أنت !
:" هل آتِ ، أم تأتي أنت " ثم ..!
يذهبان معا إلى حيث قررا ؛
أما ذاك اليوم ، فكان له حكاية مختلفة ، صدفة من النادر أن تتكرر ،
ولكنها حدثت في ذلك المساء !
****
ركبا سيارتهما وتوجها نحو العاصمة مثل كل عام وفي مثل ذلك
التاريخ، تستقبل بيروت ، مئات من دور النشر العربية والمحلية
حيث يقام معرض للكتاب العربي. تُعرض فيه أحدث الإصدارات
في مختلف صنوف الأداب والعلوم و الكتب المختلفة في مضامينها ؛
وكعادتهما في كل عام ، يتفق " عدنان " و وليد إمّا على حضور
حفل الافتتاح وإما تخصيص يوم أو يومين يصولان فيه ويجولان
أرجاء المعرض ، باحثين عما قررا مُسبقا شراءه ،أو يصادف
أحدهما كتابا يغويه فيشتريه ؛ وتقام في ساعات الذروة من
المساء استراحات جميلة يتحلّق خلالها بعض المعجبين بكاتب حاضر
لتوقيع مولوده الجديد ، أو يجلسون لتناول القهوة والعصائر
أو للمشاركة في حوارات مع بعض الكتّاب الذين يُثار جدل
حول جديد ما كتبوا .. كل ذلك ،
يجري ضمن حلقات سمر هادئة، تعكس أجواء الفن والأدب
وتُظهر الوجه الحضاري لزوار هذا المعرض المثقفين منهم
وبعض أشباه المثقفين الذين يلتزمون بما فرض عليهم من
الهدوء والكياسة والرقي.
في ذات المساء وحينما كانا يستريحان ، انتفض عدنان فجأة،
قام عن كرسيه وأمسك بيد وليد، أقامه وقال بلهفة :
أنظر ..! بربك أنظر جيدا ..!
هي أم أنّي أحلم ؟!
نظر وليد نحو ما أشار عدنان وارتبك قليلا وقال وهو مشوش الفكر:
- " من تقصد ؟ لا .. لا .. ربما لها نفس الملامح ..
ما بالك يا رجل ، إنها عشرات السنين !"
- نعم .. نعم ، ولكن أنظر إلينا ، هل تغيّرَ شكلنا كثيرا منذ ذلك التاريخ ؟!
- اهدأ قليلا يا صديقي، فهذا يتوقف على من يرانا بعد ثلاثة
عقود من الزمن ! أما بالنسبة لنا، فنحن نرى أنفسنا كل يوم ؛ هل
تلاحظ التغيير على وجهك إلا قليلا؟ ! وإذا أردت الحقيقة.. ضع
صورة لوجهك أمام المرآة قبل ثلاثين عاما ثم انظر إليها وإلى
نفسك جيدا، فهي تخبرك بصدق في كل الأحوال ! "
- اتركنا من فلسفتك الآن! تأملها جيدا وقل لي ؟! "
وبنفس الحركات الصبيانية التي اعتاد عليها، شد عدنان وليد
من ذراعه ولما لم يمشِ تركه وقال :
انظر إليّ ، سأدور خلف ذلك الجدار حتى آتِ أمامها
مباشرة وسوف ترى !"
بقي وليد جالسا في مكانه وحاول لفت نظر صديقه إلى ذلك
الرجل الأشيب، الوقور، ذو القامة الطويلة بهندامه العسكري
الأنيق الذي يرافق تلك السيدة وقال :
- ألم تر عينيك من يرافقها ؟
- سأكلمها ولو كان جنرالا في أكبر جيوش العالم يا جبان !
وبالفعل، التفَّ عدنان ومشى باتجاههما مباشرة وتقدم نحو مرافقها،
تحدث إليه بعد أن باغته و سلّم عليه بحرارة قائلا :
" ألم تعرفني حضرة الجنرال ؟
خِدمتك في مدينتنا لسنوات كان لها أثر رائع، فانا عرفتك من
بعيد واتيت لأسلم عليك!"
ابتسم العسكري وقال:
" يبدو أنك تتحدث عن العميد ذياب، فهو يشبهني إلى حد ما "
- يا الله، غير معقول، ما وجه الشبه هذا..! على اي حال
تشرفت بمعرفتك. (واضاف مستغلا ابتسامة الرجل) ولكن
اعذرني سيدي الكريم، نحن في معرض الكتاب! كيف تغيّر
الوضع في المؤسسة، (يقصد في الجيش) كان ممنوع على
أي عسكري حتى من مطالعة الصحف وسماع بعض الإذاعات العربية..
وها أنت بكل فخر، وفي بذلتك العسكرية وسط بحر من الكتب
المختلفة والتي كان بعضها ممنوع أيضا ..! "
" طويل القامة" لم يجب، تجهم وجهه وبدات ابتسامته تختفي
فاعتذر عدنان على طول لسانه، ثم نظر نحو السيدة ،حياها وهو
ينظر في عينيها ويبتسم علّها تبدي أي ردّ فعل يدل على شيء
ما يتوقعه، فلم يظهر عليها ما يفيد أنها رأته من قبل. ردّت له التحية
وبابتسامة عابرة ومشت. انسحب عدنان وهو خائب مكررا اعتذاره.
دار جدل اعتاد عليه الصديقان بين من يؤكد بأنها سعاد ، وبين وليد
الذي لم يكذب صديقه الخبير أو يصدقه لكنه أقرّ وقال :
- تفاجئني دائما أيها الملعون بجرأتك وبأساليبك في الحديث مع كل الناس ".
قال وليد ذلك وهو يعلم، أن تلك الكلمات كافية لترضي غرور
صديقه الذي طلب القهوة مرة ثانية، جلس في مقعده حيث بدا أن
"المفاجأة " وسحر المكان قد فرضت عليهما الصمت.
راح عدنان يقلب صفحات كتاب بين يديه، أما وليد، كانت عيونه
تلاحقان وجوه المارين وعقله شارد ، نظر نحو عدنان بوجه ملحّ
سؤاله ردده مرتين ، ثلاث مرات وقال :
" هل أنت متأكد من ذلك ؟ !"
ابتسم عدنان ابتسامة شامت و هو يردد بضع كلمات ساذجة
يقولها كلما وقع وليد في حيره : " ألا تريد أن تكبر يا صبي،
إكبر اكبر " ثم ضحك بخبث وهو ما زال يقلب صفحات الكتاب
ثم غرق في كرسيه، وكذلك فعل وليد. غابا مع أفكارهما كأنهما
وثبا معا إلى ذلك الماضي البعيد.. فبدت ملامحهما متغيرة متبدلة ،
مرة يبدوان كطفلين فرحيْن يضحكان ببراءة .. ومرة
يكشف ضوء القاعة الساطع خطوط الزمن التي ارتسمت على
وجهيهما بعمق. فذكريات ذلك الحدث كانت تحتل
قدرا كبيرا من مساحة ذاكرتهما ، يكرران الحديث عنها في مناسبات
عدة كأجمل بقعة ضوء في حياتهما على تعدد مثيلاتها، إلا أن
مساحتها كبيرة وضوؤها متميز ، لا تفارق ذاكرتهما كأنها حدثت
بالأمس القريب .
فبالأمس، كانت تقف أمام مكتب موظفي الجوازات ، تنتظر دورها
كباقي المسافرين قبل التوجّه نحو سلم الطائرةالجاثمة عند أحد
مدارج مطار بيروت….